إصلاح التفكير

                                                       د . محمد العبدة

يخادع الإنسان نفسه أحياناً ، يريد أن يغطي على أخطائه أو فشله فيلجأ إلى سياسة التبرير ، فهو يقول : إن هذه الأخطاء وهذا الفشل هو بسبب الآخرين ، وأما أنا فقد قمت بما يجب علي ، لقد بذلت جهدي ولكن مؤامرات الأعداء هي التي عرقلت الوصول إلى النتائج المطلوبة .

أهل السياسة يقولون : الاستعمار ، الغرب هو الذي فرق شملنا وأضعف اقتصادنا ، والبنك الدولي أضعف ميزانيتنا ، وهو الذي يعرقل مشاريعنا التنموية ، والطالب الكسول يقول : لقد درست ولكن الأسئلة كانت صعبة لم نتوقعها ، والمزارع يقول : لقد ضعف إنتاج مزرعتي لأن الأعشاب الضارة تسربت إلينا من عند الجيران .

هذه الطريقة في التفكير وكأنها تريح بعض الناس من عناء التفكير والبحث الجاد عن المشاكل وحلولها ، ومن عناء الأخذ بالأسباب كاملة ، لأن المؤامرة بنظر صاحب هذا التفكير هي أكبر منا وهي واقعة وموجودة فما الفائدة ؟ ولماذا التعب والمشقة ، بل هو يريد أن يقطع عليك الطريق لأنه يخشى أن تشركه في التفكير السليم والعمل الجاد ، لقد تضخم عنده هذا المنهج وسيطرت عليه نظرية المؤامرة وأصبح أسيراً لها .

هذه الطريقة في التبرير هي طريقة ابليسية ، حين عصى ابليس ربه ولم يسجد لآدم عليه السلام برر ذلك بأنها غواية من الله سبحانه وتعالى ( قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) الأعراف / 16بينما نجد آدم عليه السلام اتخذ الطريق الصحيح ، اعترف بخطئه فتاب الله عليه ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ) البقرة/ 37

عندما نفند هذه الطريقة في التفكير فهذا لايعني أن ليس هناك تآمر وكيد من الأعداء فقد تعرض العالم الإسلامي للإحتلال والتقسيم وما تزال الحرب الثقافية والاقتصادية ، وما تزال أمريكا تؤيد الحكومات الديكتاتورية وتشجيع الضالين المضلين من أبناء جلدتنا ، نحن في صراع مع الغرب منذ خمسمائة عام عندما بدأ ما يسمى فترة الاستعمار من البرتغال واسبانيا وبريطانيا وفرنسا ثم أمريكا وروسيا ، وهذا الصراع من السنن الكونية ليميز الله الخبيث من الطيب ، إنهم يخشون من أن يعيد الإسلام سيرته الاولى ، ولكن هل هذا الغرب هو الذي أوجد أوحرَض على هذه النقائص الموجودة عندنا ، هل هو الذي قال لنا : اكذبوا ولاتفوا بوعودكم ولا تتقنوا أعمالكم وغشوا في صناعتكم وزراعتكم ؟ وإذا وجدنا أن بعض الشعوب تغربت والتحقت بثقافة الغرب فما ذاك إلا لوجود القابلية عندهم للتغرب . وإذا كان هذا الغرب أيام سطوته الاستعمارية استطاع أن يضع الحدود ويمارس التقسيم بين الشعوب الشقيقة ولكن هل يستطيع أن يمنعنا من التوحد أوالتعاون لوأردنا ذلك بصدق وإخلاص ؟ وإذا كانت الحضارة الغربية ملأت حياتنا بمنتوجاتها النافع والضار فذلك لأننا سوق مفتوح دون تحفظ ويستهوينا الاستيراد والاستهلاك .

إن هذا المنهج في التفكير الذي يفضل الاستراحة من عناء البحث ولا يعترف بأخطائه لا يليق بالمسلم ، كما لا يليق به أن يتعود على هذا الكسل الفكري ويعتمد طريق السهولة لحل المشاكل الصعبة التي تحتاج إلى الجهد الكبير والعمل الدؤوب ، لا يليق بالمسلم هذا الرضا الزائف عن نفسه مع أننا بحاجة إلى النقد الأمين لأحوالنا وطرائقنا ، نحن بحاجة للرجوع إلى قوله تعالى ( قل هو من عند أنفسكم ) .

الإصلاح يبدأ من الداخل ، فإذا كان قوياً متماسكاً فالغالب أن الخارج لا يستطيع التأثير عليه ، وإذا استطاع فهو من قبيل الضرر فقط كما قال تعالى ( لن يضروكم إلا أذى ) فهو أذى وليس اقتلاعاً من الجذور ، والشجرة القوية الصلبة الضاربة جذورها في الأرض قد تميل أغصانها ريح عاصف ولكن لا تقتلعها ، أما الشجرة المنخورة من داخلها فإنها تهوي من أول عاصفة .

لماذا نستريح لثلب الآخرين ونبتعد عن مواجهة أنفسنا ، لماذا لا نعترف بأخطائنا قبل أن نرميها على أكتاف الآخرين ، أخطاؤنا في التاريخ الحديث كثيرة وتجاربنا ومحاولاتنا كثيرة ، لماذا لا يتم دراستها بعمق وحيادية بدل أن نستمر في اتهام الاستعمار وأعوان الاستعمار ، أم نكتفي بقصيدة رثاء ونبكي على ما ضيعنا من فرص متاحة كما فعل الشاعر بعد كارثة الأندلس : لكل شيء إذا ماتم نقصان   فلا يغر بطيب العيش إنسان .

إن امتلاك الشجاعة الكافية للاعتراف بالأخطاء ، وتجنب ايجاد الأعذار الواهية حول الأشخاص أو الجماعات أو الدول سيؤدي بنا إلى سلوك الطريق الصحيح للإصلاح بإذن الله .

الإعلان

منهج ردود الأفعال وأثره على التفكير

                                                     د . محمد العبدة

من الواضح لمن يتدبر القرآن الكريم أن من مقاصده إصلاح طرق التفكير عند الإنسان ، ومن خلالها يتوصل إلى المعارف الصحيحة ، ويتعرف على الحقائق ولا يضيع في تشعبات الآراء والأهواء .

قال تعالى : ” ولا تقف ما ليس لك به علم ” الإسراء /36

” ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ” الحج / 3

“فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ” يونس /89

إن إصلاح التفكير يعني رد الإنسان إلى الطريق الأعدل والطريق الوسط في تعامله مع الأشخاص والأفكار ، ولكن عندما يكون تفكيره متأثراً  بردة فعل على فكر آخر وليس نتيجة علم وبحث وموضوعية فإنه لن يصل إلى النتائج المطلوبة ، عدا عن أنه لم ينصف الطرف الآخر ، وفي مثل هذا السلوك تتحول بعض القضايا إلى جدل كلامي لا ينتهي ، جدل يستنزف الطاقات ويشغل الناس عن العلم المفيد والعمل الجاد .

إن إصلاح طرق التفكير يعني التوازن في تقدير الأمور ، فلا تقسم الأشياء دائماً إلى قسمين متناقضين : إما حسن أو قبيح ، إما خير محض أو شر محض ، ولا يكون التصرف إما بتصلب ويبوسة وإما بميوعة منفلتة من كل قيد .

كان للتفكير الناتج عن ردود الأفعال أثر سلبي في تاريخنا الثقافي والعلمي ، بل أتخم تراثنا بهذا القيل والقال وهذه المعارك الكلامية التي ليس من ورائها طائل . كانت عقيدة الإرجاء في بعض جوانبها ردة فعل على تطرف الخوارج الذين يكفَرون بالذنب ، وهو تطرف لايصلح عليه أمر الخلق ، وكأن الايمان عندهم كتلة واحدة إذا ذهب جزء منه ذهب كله ، وقابلتهم المرجئة فقالوا : الايمان هو التصديق أو التصديق والقول ،أو أنه قول بلا عمل ، وأبعدوا العمل عن مسماه فهو لا يزيد ولا ينقص  ، وظنوا أن الايمان الذي في القلب يكون تاماً دون العمل .

كانت ردة الفعل الثانية عند المرجئة هي عندما فشلت الثورات التي قامت على بني أمية ، فهذا مما زاد في انتشار الإرجاء ، قال قتادة : ” إنما حدث الإرجاء بعد فتنة ابن الأشعث ” أي فشل ثورة ابن الأشعث على الحجَاج أمير العراق ، وفي العصر الحديث تشاءم الشيخ محمد عبده من السياسة ومن فعل ( ساس ) وكل مشتقاته وذلك بعد فشل ثورة أحمد عرابي باشا .

إن عقيدة الإرجاء تناسب أصحاب النفوس الضئيلة المتكاسلة عن الواجبات وترغب في التخفيف منها ، ويتحايلون على النصوص لتتفق مع أهوائهم ، وقد يجهلون بما في القيام بالواجبات من المنافع .

وعندما غلا المعتزلة في ضرورة إثبات الحكمة في التشريع وفي كل أمر أونهي  ، وفي كل فروع الشريعة ، وأوجبوا على الله ذلك ، ولم يلتفتوا إلى مشيئة الله المطلقة التي قد يخفى على الناس بعض تقاديره ، عند ذلك قابلهم الأشاعرة بنفي الحكمة لإثبات المشيئة المطلقة ، وحسب رؤيتهم فإن الله سبحانه وتعالى لا يفعل لحكمة ، لأن الفعل لغرض ما إنما يكون ممن ينتفع ويتضرر وذلك منفي عن الله سبحانه . يقول الشيخ محمد عبدالله دراز رحمه الله : ” وإذن فبدلاً من أن يؤكد الأشاعرة القدرة الإلهية الكاملة التي غاب عن المعتزلة تأكيدها ، وبدلاً من أن يجعلوها في مقابل الحكمة التي حاول المعتزلة إبرازها ، نجدهم – بدافع الحمية وقلة الحنكة النظرية – قد ألغوا تقريباً الحكمة من أجل القدرة ، بحيث لم يحتفظوا منها إلا بالاسم وحسب ” ( 1 )

إن نفي الحكمة والتعليل لأفعال الله تعالى أدى إلى خلل كبير في الفكر الإسلامي ، حيث ابتعد عن التأمل العميق في قضية الأسباب والمسببات ، وعن استعمال العقل  فيما خلق له وما يجب عليه ، وعن التأمل في خلقه تعالى وما فيه من الحكمة الباهرة ، ولو رجع هؤلاء وغيرهم إلى نصوص الكتاب والسنة وجمعوا بين أطرافها من غير تعصب وردود لما وقعوا فيما وقعوا به .

وإذا جئنا إلى العصر الحديث فسوف نجد أمثلة لهذا النوع من التفكير الذي يبتعد بصاحبه عن الرؤية السليمة ، عندما ظهرت نغمة القومية العربية ونادى أصحابها بالعروبة بعيداً عن الدين ، وغالوا في الاهتمام بتاريخ العرب قبل الإسلام ، قابل ذلك بعض الكتاب الاسلاميين بالإزراء على العرب قبل الإسلام ، وأنهم كانوا في دركات من الانحطاط الأخلاقي والاجتماعي والسياسى ، كل ذلك حتى يظهروا فضل الإسلام على العرب وأنه هو الذي أنقذهم ورفع من شأنهم ، ولا شك أن الإسلام أنقذهم من الضلالة والجاهلية ولكن هذا لايعني أنهم لم يكونوا على شيء ، بل كانوا على حالة هي أقرب للفطرة ، وكان عندهم قيم أخلاقية يحافظون عليها ، وهذا مما يؤهلهم لحمل الرسالة ، ولو أنصف هؤلاء الكتاب لكان له الأثر الطيب عند من يبحثون عن الحقائق .

كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد انتقد بعض المتسننة حسب تعبيره الذين ينقصون من قدر علي رضي الله عنه ومن محبة آل البيت عندما يرون انحراف الرافضة وغلوها في علي وبنيه ( 2 ) ونحن نرى اليوم بعض المتسننة يفعلون الشيء نفسه فنراهم يبررون أفعال يزيد بن معاوية ويمدحون الحجاج بن يوسف مضادة للشيعة الذين ينسفون تاريخ بني أمية بل التاريخ الإسلامي كله . وهكذا نرى هذا المنهج في التفكير فأناس يضخمون نظرية المؤامرة وأناس ينفونها بالمرة . إن مثل هذا التفكير لا يؤسس لثقافة معتدلة ومنصفة تبتعد عن الجدل العقيم والانفعال العاطفي  ليتجه الإنسان إلى العلم النافع والعمل الجاد .

  • دستور الأخلاق في القرآن / 69
  • الفتاوى 6 / 26

على طريـــق الإصــــــلاح بعد مئـــة عـــام

د .محمد العبدة

هل صحيح أننا وبعد مئة عام من الحديث عن النهضة وعن التقدم، ما زلنا نراوح مكاننا، وكأننا لم نبدأ،  وكأننا لم نكتب ولم نحاضر، ولا أقمنا المؤسسات، ولا أسسنا الصحف والمجلات، ولا نظمنا الجمعيات والجماعات، وأن ما كان يعانيه رشيد رضا من تفرق المسلمين وضعفهم ما زال هو هو، وما كان يقاسيه الكواكبي من الاستبداد زادت حدته ، وإذا كان المقصود من كتاباته السلطان عبد الحميد، فأين نحن الآن من عبد الحميد؟ وفي أسلوب الدعوة لم يحصل التجديد المطلوب في نوعية الخطاب أو طريقة الخطاب، وقد كانت بعض البلدان العربية دائنة لقوة اقتصادها فأصبحت مدينة من كثرة ما تستورد من مأكول وملبوس، وكانت الأمية متفشية قبل الحديث عن النهضة وما زالت، أي أن المطالب الكبرى التي كانت تطلب ما زالت هي المطالب اليوم، سواء مطلب تطبيق الشريعة أو الحديث عن  الحرية السياسية أو التحرر من التسلط الأجنبي. “وإذا نحن نرى أنفسننا وكأننا لم نتقدم خطوة في فهم البلاء الذي ينزل بنا ولا يزال ينزل، وأشد النكبات التي يصاب بها البشر نكبة الغفلة” (1)

منذ سقوط الدولة العثمانية وواقعة الاتصال بالغرب والتعرف على حضارته وعلومه لم يهدأ التوتر الثقافي، وأدى إلى بروز الصراع بين تيارين رئيسيين:

تيار التغريب والالتحاق بالحضارة الغربيه، وتيار التشبث بالهوية الحضاريه للأمة الاسلامية. ليكون لهذه الأمة انتماء ووجهة توليها وبوصلة ترشدها.

فشلت في هذا الصراع كل محاولات القطيعة مع الهوية والابتعاد عن الجذور؛ فشلت القومية العربية وكل أشكال اليسار. والذين استبعدوا الإسلام كعقيدة وثقافة، ما لبث بعضهم أن عاد مادحاً للإسلام وفضله على المجتمع وعلى الناس جميعاً.

ولكن السؤال الذي تردد سابقاً بقي كما هو:

لماذا هذا التأخر في الاقلاع، وهذا البطء في طريق النهضة الشاملة. ولماذا هذه المراوحة التي تعيق أي جهد يبذل للنقد والبناء ؟. ولماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم ؟ ( 2 ) ولماذا لم يدرس هذا الموضوع دراسة علمية منهجية ؟.

كانت الإجابة عن هذه الأسئلة أن قامت محاولات جادة ومشاريع نهضوية، ولكنها كانت جزئية، هي خطوات على طريق الإصلاح نجح بعضها أو نجح في فترة معينة، وتوقف آخر،  وكل مشروع ركز على بعض عوامل التحضر وأهمل العوامل الأخرى، أو غفل عنها، قامت جمعيات وجماعات، وظهرت أعمال فردية قوية، ولكن لم يقم مشروع كبير، يستثير طاقات الأمة كلها.

والذين يؤرخون لبدايات النهضة يذكرون أسماء معينة ومشاريع معينة، وقد نختلف معهم في هذه الرؤية، ولكننا سنتابع الترتيب الزمني الذي يذكرونه:

  • كانت محاولة (رفاعة الطهطاوي) (1801- 1873م) هي تلفيق مع الحضارة الغربية، تركيب بين تقدم أوروبي مع تقدم (روحي) إسلامي إذا صح التعبير. كان خليطا هجينا على غير نظام كقوله: إن الحرية عندهم هي ما يسمى في الاسلام بالعدل والانصاف، كان انبهارا بالغرب وإلحاقا بمشروع محمد علي باشا التحديثي غير الأصيل ولم يكن مشروعا لدراسة ما عند الغرب وأخذ ما هو مفيد، ولكن كان الهدف إدخال الغرب في المعادلة.
  • كان خير الدين التونسي (1810ـــ 1890م) أوضح من الطهطاوي حين ركز على التنظيمات الإدارية والمؤسسات السياسية في الغرب القائمة على العدل؛ الذي أدى إلى القوة العسكرية والاقتصادية، ولذلك كان يخشى من تدفق السيل الأوروبي على العالم الاسلامي، ويحاول ما أمكنه الاصلاح السياسي والاداري من خلال مناصبه العليا في تونس والدولة العثمانية، ولم يكن وطنياً ضيقاً كالطهطاوي الذي ركز على مصر فقط بل كان الهدف إصلاح الدولة العثمانية، ولكن مشروعه كان ناقصاً يشبه محاولة الطهطاوي من ناحية الجمع بين التقدم الأوروبي وشيء من القيم والأخلاق الاسلامية ولم يتنبه إلى أن التنظيمات الأوروبية لها جذور فكرية وثقافية معينة ، يخالف بعضها ثوابت الشريعة الاسلامية ودون الرجوع الى أصل المشكلة وهي تكيف الفرد مع إسلامه وعقيدته.
  • وظهر جمال الدين الأفغاني (أو الأسد أبادي الإيراني ) 1838 ــ 1897م وهو سياسي غامض أثار الزوابع في كل مكان حلّ فيه، وهناك جدل كثير حول أصوله الفكرية وانتمائه الجغرافي، أسس في باريس جريدة العروة الوثقى مع تلميذه الشيخ محمد عبده، ورفع شعار (الجامعة الإسلامية) أي توحد الدول الإسلامية للوقوف أمام المد الاستعماري الأوروبي، وقد كانت مقالات (العروة الوثقى) حول هذه الموضوعات وغيرها مما يتعلق بنهضة المسلمين، كان لها أثر في تنشيط الوعي الاسلامي، ولكن هذه الجهود لم تكن تحمل مشروعاً ممنهجاً ضمن خطة معينة، إنما هي نظرات في الواقع ولم يتحقق أثرها.
  • وأما تلميذه الشيخ محمد عبده فقد كان ميله الى الأمور التربوية والعلمية أكثر من اهتمامه بالسياسة، خاصة بعد أن اكتوى بنارها في تأييده لثورة أحمد عرابي. ثار الشيخ على الجمود والخرافات، وظن أن التجديد في علم الكلام يفيد في نهضة المسلمين فألف (رسالة التوحيد) والحقيقة أن علم الكلام لا يبني الأمم ولا يجدد لثقافة المسلم. وللشيخ أقوال واجتهادات في التفسير لا يوافق عليها وطابعها انهزامي أمام هجوم المستشرقين، لقد كان همه الدفاع عن الاسلام أمام هؤلاء أكثر من همه الدفاع عن المسلمين، لقد شغلته الردود على (رينان) الفرنسي وعلى (فرح انطون) عن مشكلة المسلمين الحضارية “. ولا جرم أن الجدل مع المخالفين والرد ورد الرد يشغل رجال الإصلاح عمّا هم بسبيله من الإصلاح وتعبيد طرقه ” ( 3).
  • جدّد رشيد رضا في تفسيره وفي مجلته ( المنار ) وكذلك الآلوسي في بغداد والقاسمي في الشام، جدد هؤلاء في بعث السلفية والرجوع إلى النبع الصافي، وتكلم رشيد رضا عن الشورى وعن الجمعيات الأهلية وأهميتها، وتحدّث طويلاً عن سنن الله سبحانه في المجتمعات والأفراد، وهو من العلماء القلائل في العصر الحديث الذين جمعوا بين الرواية والدراية، وكان على اطلاع واسع بأحوال العالم الإسلامي وأحوال الغرب وما يدبر ويخطط لاحتلال بلاد المسلمين وزعزعة ثقافتهم وعقيدتهم، وأظن أن الذين جاءوا بعده لم يستفيدوا كثيراً منه. كان لهؤلاء الأعلام الأثر المحمود في نشر العلم والوعي ولكن لم يكن وراء ذلك أعمال جماعية وجهود سياسية تنتج الثمر المطلوب، وتستخدم الينابيع السلفية في خدمة الواقع.
  • وفي عام 1927م أنشأ الشيخ حسن البنا حركة الإخوان المسلمين وكان لها جهود كبيرة في مصارعة التغريب الذي غزا المجتمعات الاسلامية، وأحيت الفهم الشمولي للإسلام نظرياً وعملياً وذلك حين أسسوا الشركات والمدارس وقاوموا الاحتلال الصهيوني في فلسطين، كما نقدوا الحضارة الغربية والإتجاه المادي فيها ولكن الخطاب بشكل عام سواء التربوي الدعوي أو النهضوي كان مجملاً عاماً يميل إلى العاطفة واستنفارها أكثر مما يميل إلى التأمل الاستدلالي والتحليل والنقد والتأصيل العلمي والتعمق في دراسة المشكلات ( 4 ) وانشغلوا مبكراً بالسياسة وأحابيلها وخاضوها قبل أوانها ( 5 )، بل تورطوا بها وذلك قبل الرسوخ في الدعوة ونشر العلم بين صفوف الجماهير.
  • التجربة التي كانت اقرب للنجاح هي ما قامت به جمعية العلماء الجزائريين التي أسست عام 1931م بقيادة الشيخين: عبد الحميد بن باديس والبشير الابراهيمي، لقد كانت عامة وشاملة، وأحيت الهوية الاسلامية العربية للجزائر، وهي التي مهدت للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، ولكن سرقت جهودها من قبل السياسيين الانتهازيين، وهذا الامر الأخير تكرر في أكثر من بلد، تكرر في المغرب ومصر وباكستان وإندونيسيا، ولذلك هو بحاجة الى تأمل ودراسة، لماذا تسرق جهود العاملين المخلصين وكيف ؟ ( 6 ) .
  • عاد الحديث في السنوات الأخيرة حول الرجوع للتأصيل العلمي وتنقية التراث مما علق به من أغاليط وأوهام وأحاديث موضوعة، وهو منهج صحيح وسليم، وجاء خطوة على الطريق مهمة، وقد كُتب لهذا المنهج الانتشار والقبول، ولكن المطلوب كان أكثر من هذا بكثير، كان المطلوب: كيف نستمد من النصوص استمداداً رشيداً مما تقتضيه الأوضاع الحالية، والاجتهاد والاستنباط من خلال السياسة الشرعية ومقاصد الشريعة.
  • والذين طرحوا شعار استيراد التقنية ونتائج العلوم الطبيعية من الغرب مع الاحتفاظ بالنقاء الإسلامي، إن هؤلاء مع حسن نيتهم وصدق طرحهم إلا ان مالك بن نبي يقول لهم: لا يصح استيراد منتجات حضارة دون أن نعيش نحن في أجواء حضارة نستعيدها وهي الحضارة الإسلامية، وهي الحضارة التي تحتضن العلم وتشجعه، فاستيراد سيارة أو طائرة لا يعني أننا متحضرون، وتكديس الأشياء المادية لا يشكل حضارة، فالتكديس والمظاهر الحضارية كانت في العصر العباسي أكثر مما كانت زمن الخلافة الراشدة، ولكن قوة الصعود وقابلية الإنشاء وحرارة الايمان الذي يساعد على النهوض كان زمن الراشدين.

كل هذه المشاريع والأطروحات وغيرها مما لم تذكر (لأننا لم نقصد الاستقصاء الشامل) كانت خطوات على الطريق، يجب أن يستفاد منها، ولكن الأزمة التي يواجهها المسلمون أزمة كبيرة لا ينفع معها الحلول التوفيقية والتلفيقية ، فالبرامج لم تكن برامج عملية ذات محتوى تفصيلي جاهزة للتطبيق بل كانت تحوم حول العموميات، وقد آلت بعض الشعارات التي تدعو إلى النهضة إلى الضد من أهدافها ، فالشيخ محمد عبده انتهى إلى القول بمبدأ ( المستبد العادل) والحرية قد تؤول إلى التفلت، فالطهطاوي تحدث عن باريس ومراقصة الرجال النساء بإعجاب، واصفاً إياها بالنظافة والخلو من أي معنى من معاني الفحش، والكواكبي الذي تحدث طويلاً عن الاستبداد وآثاره المدمرة  وصل إلى التفريق بين الدين والدنيا، يقول : ” دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة ” ( 7 ) .

نحن بحاجة إلى تشخيص الواقع والنفاذ إلى أعماق المشكلة والوصول إلى أصل الداء، فإذا قلنا أن من أسباب التخلف الاستبداد ، فإن السؤال يعود  ما هو سبب قبول الاستبداد من الفرد أو المجموع ؟ وأين التكيف بين الايمان والإرادة فكراً وعملاً حتى لا يقبل الفرد الاستبداد ،كما وضع مالك بن نبي مصطلح ( القابلية للاستعمار ) لماذا تقبل الشعوب الاستعمار ، وإذا رفع شعار الحرية ، ولكن الإشكال يبقى: ماهي عناصرها التي تغطي مجالات الحياة المختلفة ؟ وأين الضوابط التي تضبط تلك العناصر ؟ لأن  الحرية إذا أطلقت هكذا دون تفصيل وضوابط تصبح خطيرة على المجتمع والدولة ، كان الشيخ محمد عبده يرى أن العلة الأساسية هي الجمود، ولكن هذا عرض للمرض، والسؤال ما هي العوامل التي أدت للجمود ؟ كان أصحاب الغيرة من المصلحين يترنمون بمجد الإسلام ويتحرقون شوقاً لإحيائه ، ولكن لم يبحثوا عن العزائم التي خارت لماذا خارت .

لا بد إذن أن نرجع إلى النفسية الفردية للمسلم وما الذي أصابه من داخله  ( 8) حتى أصبح غير فعال في أعماله ، فقد يكون صالحاً في شخصه ولكنه غير مصلح اجتماعياً وحضارياً . لا بد أن نرجع إلى الحضارة الإسلامية كيف قامت وعلى أي الأسس ؟ لا شك أنها قامت على أساس الدين والعقيدة الايمانية ، وإن العامل الذي ولّد تلك الحضارة في عصورها الذهبية هو العامل التربوي الذي كون الفرد في تفاعل وتكامل ما بين هذه العقيدة وأمور الواقع في الحياة الدنيا ، والعقيدة السليمة تنتج آثارها في الخلق والسلوك ، فعندما يتكون الفرد ايمانياً يسري ذلك على كل مظاهر العمران والحضارة ، فلما حصل الابتعاد عن آثار هذه العقيدة بسبب الإغراق في حب الدنيا والإنحراف عن مسلك الإخلاص والاستقامة وأصبح المسلم مقسم الشخصية فمن جهة هو يحب هذا الدين ويريده ، ومن جهة أخرى غلب عليه حب المال أو الرئاسة أو العصبية الجاهلية والتقلب في الشهوات والملاذ كما يعبر ابن خلدون ، عندئذ خارت الإرادات الاعتقادية البناءة وظهر الانفصال بين العلم والعمل ، بين العقيدة والسلوك وضعف الوازع الديني عن التأثير في السلوك ، وابتعد عن أن يخلع من روحه على النهضة ( 9 )

المطلوب هو مشروع متكامل يجمع أهل العلم وأهل المال وأهل الإدارة والاختصاص ، ويقوم بتفعيل دور مؤسسات الأمة وعلى رأسها مؤسسة العلماء ، فالأمة الإسلامية أمة متدينة والعلماء هم القادة الذين يرجع الناس إليهم ، وخاصة العلماء الربانيون الذين يلون أمور الناس ويصلحون أحوالهم ويجمعون إلى العلم البصر بالسياسة ، يؤازرهم في ذلك طلبة العلم والمشايخ ، فهؤلاء هم المكلفون بنشر العلم على جميع طبقات الأمة ، ومن واجبهم حماية الأمن الثقافي للمجتمعات الإسلامية . وقد قصرت في هذا المضمار الجمعيات والمشاريع الإحيائية في إبراز هذا الدور الكبير للعلماء كما أن الدور الأكبر لإزاحة العلماء عن التأثير كان مما قامت به الدولة الحديثة التي جاءت بعد الدولة العثمانية وبتأثير من الغرب وتم إضعاف الأزهر في مصر والزيتونة في تونس  .

المشروع المتكامل يشمل كل مناحي الحياة التي لابد منها للإنسان ، يشارك فيه الجميع ويستفيد من كل الطاقات ، ويلتف حوله المخلصون ، فهناك شرائح كبيرة من المتعلمين ذوي الكفاءات العالية ومن أهل الذكاء والخبرة يجب أن يستفاد منهم، وهم جاهزون تواقون للمساهمة في مشروع كبير للخروج من هذا المأزق، ويشارك فيه أيضاً رجل الشعب الذي يتمتع بالبداهة الصادقة ويرى الأشياء بنور قلبه ، فالجماهير غير ميالة كثيراً للتأمل والمحاكمات العقلية ، ولكنها مؤهلة للانخراط في الممارسة والعمل، لقد افتقدوا القيادة منذ زمن ، وعندهم استعداد للتضحية إذا وجدوها.

الرجوع إلى الماضي هو المهماز الذي يساعد على النهضة ويدفع للمستقبل ” فالذي يتملك الماضي يتملك المستقبل أما الذي يمسك بالحاضر فحسب فهو من أهل الماضي ” ( 10 ) نستفيد مما سبق من الخبرات والتجارب المتراكمة ، وهي كثيرة على المستوى الفردي أو الجماعي ، وندرس بحيادية وموضوعية الأخطاء التي وقع فيها السابقون ، ونقوّم ونسدد ونقترح الطرق الصحيحة . لقد استوعب القرآن الوحي السابق وأضاف وأكمل الدين وختم الرسالات ، قال تعالى : ” يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ” النساء / 26 واستوعب الإسلام الأشياء الحسنة والأعراف الحسنة التي كانت قبل ولم يقصها أو يبترها ووضعها ضمن منظومة أخلاقية واحدة .

في الأمة مخزون حضاري يملك من المقومات ما يساعد على النهوض ، هذا المخزون قد لا يراه الناظر لأول وهلة ، فالذي يطفو على السطح لا يشير إلى هذه المقومات ولكن في العمق هو ايجابي ، الأمة تنتظر مشروعاً ريادياً تنتعش به الآمال وتعود الروح قوية ، والعزيمة بناءة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ــ محمود محمد شاكر : تقديم لكتاب في مهب المعركة لمالك بن نبي / 10

2 ــ أجاب عن هذا السؤال الأمير شكيب أرسلان في كتاب صدر بهذا العنوان .

3 ــ عبد القادر المغربي : جمال الدين الأفغاني / 8

4 ــ انظر : عبد المجيد النجار : مشاريع الإشهاد الحضاري ، وهو الجزء الثالث من كتابه عن النهضة

  وذلك حين تحدث عن الإحياء الايماني .

5 ــ نصحهم الشيخ : أبو الحسن الندوي أن يؤجلوا موضوع السياسة قليلاً

6 ـ انظر بحث: حتى لا تستلب الجهود الإسلامية للكاتب، دار الصفوة – القاهرة.

7- عبد المجيد النجار : مشاريع الإشهاد الحضاري .

8 ــ وقد أشار المفكر الجزائري مالك بن نبي الى هذا الموضوع في كثير من كتبه .

9- انظر : الفاضل بن عاشور : روح الحضارة الإسلامية .

10ــ أحميدة النيفر : لماذا أخفقت النهضة العربية / 74

بناء الشخصية الإنسانية في القرآن

د. محمد العبدة

إن توجيهات القرآن الكريم تدعو إلى بناء الإنسان من الداخل، قلبه ومشاعره وإرادته ، حتى إذا استقام حاله على توازن واعتدال واستقر على هدى من الله ، استطاع أن يواجه المصاعب والأزمات وما يتعرض له من امور الدنيا من غنىً او فقر أوصحة ومرض وغير ذلك .

هذه الشخصية التي يريدها القرآن هي التي لا تفرح بطراً إذا حصلت على ما تريد من متاع الدنيا كما فرح قارون بأمواله المكدسة جهلاً منه بسنن الله في أمثاله ، ولا تحزن حزناً محبطاً وتقعد ملومة محسورة إذا فقدت ما تملكه أو ما تسعى إليه ، ولا يصيبها الغرور إذا أمسكت بمقاليد الأمور ، ولا تقبل الدنية والهوان إذا واجهت صعاب الحياة . قال تعالى : ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور . ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور . إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات اولئك لهم مغفرة وأجر كبير ) هود/ 9- 11 . قال المفسرون : الرحمة هنا هي جميع ما ينتفع به الإنسان أويحتاجه من أموره الدنيوية ، وكفور تعني أنه كافر بالنعمة ، والنعماء هي الصحة والمال ونحو ذلك ، وقول الإنسان ( ذهب السيئات عني ) تعني أن ذهاب السيئات جاء هكذا عرضاً أو لأسباب هو فعلها أو لاعتقادات فاسدة يعتقدها ، أي أن ذهابها – حسب كفرانه – ليس بإنعام وفضل من الله .

إن فحوى الآيات يشير إلى أن هذا الخُلُق هو من طبيعة الإنسان ولايستثنى من ذلك إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ، هؤلاء الذين تربوا من خلال الدين على تحمل المكاره وشكر النعماء ، وما حملهم على ذلك إلا حب الله والايمان باليوم الآخر .

يدعو القرآن الكريم المسلم أن يكون شخصية قوية صلبة لا تزعزعه الخطوب ولا ينكسر أمام الحوادث فيجلس محطماً لا يهتدي سبيلاً ، قال تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) فصلت / 30 أي لاتخافوا مما تقدمون عليه في أمور حياتكم ولا تحزنوا على ما فاتكم ، لأن مشاعر الحزن والضيق والأسى مشاعر سلبية لا تحل المشكلة .

قال ابن تيمية رحمه الله : ” وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وناح كما ينوح أهل المصائب ، وهو منهي عن هذا ، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام  وأن العاقبة للتقوى ” وحول هذه العاني يقول شاعرنا إقبال :

المؤمنون على عناية ربهم يتوكلون

لا خوف يفزعهم ولاهم في الحوادث يحزنون

ثقة الكريم بنفسه تعلو به فوق الزمن

والحزن سم قاتل لا تشربوا سم الحزن

نعم ، المسلم لا يحزن الحزن السلبي الذي يقعده عن العمل ، ويصبح دأبه الشكوى أو الحنين إلى الماضي ولا يقدم شيئاً للحاضر ، ولكن المسلم يحزن الحزن الايجابي الذي هو طول الفكرة الذي يؤدي الى الشعور بالمسؤولية ، ويبعده هذا الحزن عن سفاسف الأمور وعن الترف واللهو ، ويدعوه للغيرة على محارم الله ، وعندئذ يُبشر ب ( الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور رحيم )

وحول بناء الشخصية الإنسانية السليمة قال تعالى : ( ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور ) لقمان / 18 . يقول الشيخ الغزالي رحمه الله : ” الخيلاء شعور طفولي بالعظمة والفخر ، وحديث المرء عن نفسه أو قومه باعتزاز ينشأ عن الجهل أو الذهول عن حقوق الآخرين ، وفي الإسلام حرب موصولة ضد الاختيال والاستكبار ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إن الله أوحى إليً أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ” وغزارة المعرفة ونفاسة الموهبة ينبغي أن تستر برداء العبودية لله والإحساس بفضله ” ( المحاور الخمسة في القرآن الكريم / 206)

هذه التوجيهات القرآنية أوجدت بين المسلمين درجة من الاعتدال والتوازن لا يوجد لها نظير في أي بقعة من بقاع العالم ، لقد علمت المسلمين أن يواجهوا صعاب الحياة ويتحملوا قيودها بلا شكوى ولا ملل ، ودعتهم لأن يكونوا أقوياء على الدوام .

القومية والتشيع في ايران                                      

د . محمد العبدة

هل نختلف في توصيف حالة ايران وسياستها وهويتها ، هل هي شيعية تستخدم  القومية الفارسية لمصلحتها ، أم هي فارسية تستخدم التشيع غطاء لأهدافها ؟ هل نختلف والواقع يقول إنها دولة تتبنى فكراً معيناً وعقيدة معينة ، وتدفع المليارات لنشر التشيع في العالم ، والمقصود العالم السني ، وأذرعها في المنطقة العربية قائمة على التشيع ، ولاشك أن الفرس قديماً وحديثاً الذين غصوا بالفتح الإسلامي وانهيار الامبراطورية الفارسية ، هؤلاء يكنون الحقد والكره للعرب الذين قادوا هذا الفتح ، وما نشأت الشعوبية في العصر العباسي إلا نتيجة لهذا الحقد ، والمسلمون ليس عندهم تعصب لجنس معين فالميزان هو الدين والتقوى ، والفرس من أوائل من دخل في الإسلام من الأعاجم في فتوحات الشرق ، وكان منهم علماء بارزون ، ولكن الذين شرقوا بالفتح الإسلامي قاموا بعمل مضاد مثل إنشاء الجمعيات السرية الباطنية ، وسلالة هؤلاء اليوم لاشك أنهم يحقدون على السنة ويحتقرون العرب ، وعندهم النعرة الفوقية والتغني بأمجاد الفرس قبل الإسلام ، وإحياء تقاليدهم ( عيد النيروز وملحمة الشاهنامة )

إن الذين يقولون أن المشروع الايراني هو مشروع فارسي بغطاء شيعي ، ربما يتهربون من وضع العقائد والتوجه الشيعي في مركزية الحدث ، وحتى لا توسم الأحداث بالمنحى الطائفي ، إن مثل هؤلاء كمثل الذين يقولون إن الحروب الصليبية كانت لأهداف اقتصادية وأن هذه الموجات الإفرنجية كانت تتطلع إلى خيرات المنطقة الإسلامية وخاصة بلاد الشام ففيها ( العسل واللبن ) وهكذا يريدون إبعاد عنصر الدين في هذه الأحداث ،مع أن الذي حرك الشعوب الأوروبية للانخراط في هذه الحروب هي الكنيسة والناسك بطرس ، وكان التحريض أن المسلمين لايؤمنون بوجود الله بل يعبدون محمداً ، وهذا لا يعني عدم وجود اهداف أخرى كأطماع فردية .

وهكذا يستمر التهرب ويقال عن كل تصرف أمريكي سياسي أن هدفه المصالح : البترول ، الموقع السياسي ، ولا يدخلون في التحليل السياسي أوالمعادلة التوجه الديني لدى المحافظين الجدد مثلا ومن يؤيدهم ( كان الرئيس نيكسون يقيم قداساً في البيت الأبيض وكذلك بوش الابن ) .

إن من رؤوس الحكم في طهران الشيعي العربي والشيعي الأذري ( خامنئي من العنصر الأذري ) وإن كان العنصر الفارسي هو الغالب ، والذين يقتلون وينهبون أموال أهل السنة في العراق هم من الشيعة العرب .

إن امتزاج الدين بالقومية موجود في بلاد فارس حتى في الحقبة الساسانية قبل الفتح الإسلامي ، كانت الزرادشتية هي دينهم الوحيد ، وكانت الطبقة السياسية والدينية متحدتان تماماً حول الزرادشتية ( قومية دينية ) وهي الآن كذلك امتزاج حميم بالتشيع ، والقومية وحدها لا تستطيع أن تقدم هذا النفس وهذا الزخم لايران  في محاولاتها للتمدد والتوسع على حساب أهل السنة ، ولولا التوجه الشيعي لا تستطيع ايران أن يكون لها هذه الأذرع والتي من خلالها تفرض شروطها وتفاوض الغرب .

هل استطاعت القومية الطورانية ( الاعتزاز بالعرق التركي والتمحور حوله ) أن تقدم شيئاً مهماً للجنس التركي في العالم ، وهل استمالت القوميات التركية الأخرى ، وهل استطاعت القومية العربية التي كانت شعاراً لكثير من الأحزاب والدول أن تقدم نهضة للشعوب التي بقيت عشرات السنين تسمع وتنتظر ولم تر طحناً .

قد يقال أن السياسة في ايران تتغلب أحياناً على التوجه الديني ، وهذا صحيح فالبراغماتية المفتوحة جداً والتي شرعها وأسس لها الملالي وعلى رأسهم الخميني تساعد على ذلك ، وتقدم المصالح على ما يعتقدون ، ولكن كل مؤسساتهم من مجلس الشورى ومجلس تشخيص النظام ومجلس الخبراء يجمعهم إطار واحد هو الشيعة ونشر التشيع .

  الشورى

د . محمد العبدة

عندما نطرح موضوع الشورى لا نقصد الالتزام بهذا الاسم أو هذا المصطلح لمجرد الخصوصية مقابل مصطلح الديمقراطية ، أو للتميز والمخالفة ، كما أننا لا نراه شيئاً مثالياَ أو خيالياً ، لا يملك آلية للوصول إلى الهدف المنشود .

نتحدث عن الشورى كعملية سياسية لإدارة الحكم تختلف عن الديمقراطية بشتى أشكالها في الغرب أو الشرق ، وعندما أظهرنا بعض عيوب ونقائص الديمقراطية فلأننا نريد أن نعيد لمصطلح الشورى مضامينه الحقيقية كما جاءت في القرآن الكريم وكما طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده . نعيدها ونجتهد في تطويرها لتكون بديلاً صحيحاً هي أقرب للصواب ولحسن الاختيار كي نصل إلى أفضل المؤهلين فكرياً وعلمياً وخبرةً ، ولا نقلد غيرنا

                                                                                                                                                  (1)

ونستورد شيئاً قد نبت في أرض غير أرضنا وطبق على شعوب غير شعوبنا  وفي ظروف غير ظروفنا والأسئلة التي يطرحها البعض عندما ننقد الديمقراطية : ما هو البديل ؟ هل البديل جاهز؟ ونقول لهؤلاء : لماذا لا نفكر في البديل من البداية ؟ لماذا لا نجتمع ونتحاور ونجتهد مع أهل العلم والذكر الخبراء في السياسة والسياسة الشرعية ومقاصد الشريعة ، بعض الأمم غير الإسلامية الذين رفضوا الديمقراطية الغربية ، أوجدوا بديلاً ، قد يكون ناجحاً وقد يكون غير ذلك  ولكنهم فكروا في البديل المناسب لهم ، أليس من الأولى والأحرى أن يقوم المسلمون بإيجاد النظام المناسب لهم ؟

عندما نتحدث عن الشورى فإننا نتحدث عن مبدأ تجري فيه المناقشات والحوار وتبادل الرأي تحت مظلة القيم الإسلامية ، وتتحرى فيه الآراء القرب من العدل والحق الذي تفرضه الشريعة .

نتحدث عن الشورى في مجتمع اسلامي يمارس واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروط وآداب معروفة ، وهو واجب فرضه القرآن على جميع المسلمين وجعلهم مسؤولين فرادى وجماعات عن مرقبة وحراسة الأمن العام للأمة ، وهو واجب له مجالات واسعة في التربية والتعليم والثقافة والإعلام ، وفي التشريع والدعوة والمجالس من أصغر خلية إلى ( مجلس الشورى ) إنه سلوك خلقي شامل، وإنه من خصائص الأمة الإسلامية ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )  هذا الواجب هو مصدر صريح للشورى وهو يُطهر المجتمع من آفتين : الاستبداد من جهة ، واستعباد الآخرين من جهة أخرى ، فالقضية ليست في شكليات (الدستور ) أو  (المواد الدستورية ) القضية هي في نفسية الفرد وثقافته وعقيدته ، فعندما يفقد الفرد شعوره بقيمته كإنسان ينتهي كل شيء .

وضع الإسلام حاجزين لمنع تدهور الإنسان ، وحتى لا تظهر آفة الاستبداد حث القرآن المسلمين بأن لا يقبلوا بالذل والهوان ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا : فيم كنتم قالوا : كنا مستضعفين في الأرض ، قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) النساء 96 .

وحتى لا تظهر آفة استعباد الآخرين قال تعالى (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ) القصص 83

قد تمنح الديمقراطية العلمانية الحقوق للإنسان ، وتمنحه الضمانات الاجتماعية ، ولكنها تتركه عرضة لأمرين : إما أن يكون ضحية مؤامرات لمنافع خاصة ، أو لا مانع عنده من ممارسة الديكتاتورية على الآخرين ، أي استعباد الشعوب.

( 2 )

 الآخرى  .

نتحدث عن الشورى في مجتمع إسلامي يقرأ القرآن ويرى ما فيه من تشنيع على صنف من الناس يخضعون لتأثير( الملأ ) ويتبعونهم على غير هدى . وذكر القرآن ضعف هؤلاء التابعين أمام المتبوعين ( يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين ، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ، بل كنتم مجرمين …. ) سبأ 30 ــ 31

( وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا ، بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً …. ) سبأ 32

ماذا نقول عن هذا الاستهواء وعن صنوف هذا التأثير بعيدة الخطر في الحياة العامة وفي العصر الحديث يقوم الإعلام بهذا الدور حين يتحكم بالرأي العام ويسلب الناس تفكيرهم إضافة إلى الزعماء الدجالين ، ويظن الفرد أحياناً أنه مستقل حر ، ولكن الإعلام يكون قد أثر عليه .

إنها الشورى التي تتعمق داخل المجتمع الأسلامي ، وليست مجلساً سياسياً فقط ، وإن كان المجلس هو قمتها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” كلكم راعٍ ، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته ” ففي هذا الحديث الشريف تتوزع المسؤولية على الجميع من الأدنى إلى الأعلى ، كل فرد ، وكل أسرة وكل مجموعة أو تجمع .

نتحدث عن الشورى التي بدأت بالتطبيق العملي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم في عهد الخلفاء الراشدين وهي سوابق دستورية لم يشهدها التاريخ ، وقد تمثلت في أنها : ليست وراثية ، وأنها سلطة المسلمين عامة ، وأن تداول السلطة يمكن أن يأتي بأكثر من وسيلة ، وأن الأمة يجوز لها أن تنيب عنها مجموعة هي التي تختار رأس الدولة ، وأن الحاكم ليس معصوماً . هذه التجربة نريد أن نستأنفها ونطورها ونقعِّد لها القواعد والنظم حسب واقعنا وظروفنا .

الشورى في القرآن والسنة

وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في موضعين : في سورة آل عمران بصيغة الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم ” فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ، إن الله يحب المتوكلين ” آل عمران/ 159 وفي أرجح الأقوال أنها نزلت بعد موقعة ( أُحد ) والآية الثانية التي وردت فيها كلمة الشورى ( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم … ) الشورى / 38وهذه الآية تصف أحوال المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم وكأنها تجعل ممارسة المؤمنين للشورى شيء طبيعي بحكم استجابتهم لربهم وبحكم اقامتهم الصلاة وإنفاقهم مما رزقهم الله ، وهي صفة عامة ينبغي أن تلازم جماعة المسلمين في حياتهم العادية وسلوكهم العادي ، وليس أمراً فقط للعلاقات السياسية بل انها لا تضيع في العلاقات السياسية إلا اذا ضاعت في المجتمع ككل ، فالله سبحانه وتعالى عاب على قوم فرعون أنهم أطاعوه ( فاستخف قومه فأطاعوه انهم كانوا قوماً فاسقين ) الزخرف /54 أي هم الذين تسببوا في طغيان فرعون وقبلوا الاستخفاف وقد قص القرآن من أمر مملكة سبأ : أنها قالت للملأ من قومها بعد أن اتصلت بكتاب سليمان ــ عليه الصلاة والسلام ــ قالت لهم ” قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون ” النمل /32. والقرآن لا يقص علينا القصص للتفكه بالوقائع التاريخية ، ولكن ليتعلم الجاهلون ، ويتنبه الغافلون ، وهو القائل لرسوله صلى الله عليه وسلم.

( 3 )

 : ” فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ”  الأعراف /176.

فمسؤولية الشورى وحكمها يدور في المجتمع كله ، ولا يقتصر على العلاقات السياسية قال أبو هريرة رضي الله عنه : ” ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من الرسول صلى الله عليه وسلم .

وقد استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أربع أنواع من الناس ، استشار كل الناس وهي شورى مفتوحة وتكون غالباً في المسجد ، فعل ذلك في التصميم على القتال في بدر ، وأخذ برأي الأغلبية في الخروج الى أحد .

الشورى الثانية كانت لرؤساء الناس ، وأوضح مثال هو عندما استشار السَّعْديَن ( سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ) في أمر يخص أهل المدينة ، وهو إعطاء الأعراب ثلث ثمار المدينة على أن ينسحبوا من تحالف الأحزاب في حصارهم للمدينة ( غزوة الخندق ) . وفي أعقاب غزوة حنين طلب من عموم الجيش أن يبعثوا ممثلين لهم ( عرفاء ) فقد جاء في السيرة أن هوازن جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلموا يطلبون رد السبي من جيش المسلمين المنتصر ، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ” إنا لا ندري من أذن فيه ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم ” أي أن الذين سيأذنون برد السبي هم أفراد الجيش الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فرجع العرفاء الى الناس وكلموهم فأذنوا وطيبوا ، فرد السبي فهذا يدل على أن اختيار الناس ممثلين عنهم للدفاع عن قضاياهم ومطالبهم طريقة صحيحة .

الشورى الثالثة : أهل خبرة في مجال معين ، أبدوا رأيهم لخبرتهم ، فقد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم مشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه في حفر الخندق ، ومشورة الحباب بن المنذر في مكان النزول في غزوة بدر .

النوع الرابع : أهل الشورى الذين استشارهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أهل رأي وحنكة وتجربة وسابقة جهاد ، وأكثر ما خصها الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وقال لهما :” لواتفقتما على أمر ما خالفتكما”  .

فالشورى تعتمد على الموضوع المطروح ، فهناك موضوعات يستشار فيها أهل الاختصاص ، وبعضها يستشار فيها جميع الناس كما فعل عبد الرحمن بن عوف عندما استشار الناس في خلافة عثمان أو علي رضي الله عنهما .

إلزامية الشورى والفرق بين الشورى والاستشارة    

إذا كانت الشورى في الأمور العامة ، التي تهم الأمة جميعاً مثل اختيار الإمام أوالرئيس ، أوحالة السلم والحرب والمعاهدات مع الدول فهذه الشورى إلزامية أي تخضع لرأي الأكثرية . فلم يرو عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه استشار وخالف مضمون الشورى ، بل استجاب للشورى رغم مخالفتها لرأيه كما في الخروج الى أحد ، وعندما استشار السعدين في إعطاء أعراب غطفان ثلث ثمار المدينة قالا له : ما لهم عندنا الا السيف ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : هو ذاك وألغى موضوع الاتفاق مع غطفان . أما صلح الحديبية واعتراض بعض الصحابة عليه ، فهذا كان أمراً ربانياً ، استنبط الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خلأت ناقته ( القصواء ) أن الله سبحانه وتعالى لا يريد من المسلمين دخول مكة هذا العام وقتال أهلها ، فهذا الصلح لم يكن أمراً مطروحاً للشورى .

إن أمر الشورى أمر عظيم ، وما ضعفت الأمة الا حين تركته

وقد يظن البعض أن قوله تعالى ( وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) آل عمران / 159   لا تعني إلزامية الشورى بل أفضلية الاستشارة ، ولكن معنى الآيه كما قال الرازي : ” إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة ، فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه ، بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته ، وقد أمر الله تعالى أولي الأبصار بالإعتبار ، ومدح المستنبطين ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالاجتهاد اذا لم ينزل عليه وحي ، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة ، وقد شاورهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر في الأسارى ،

(4 )

 وكان من أمور الدين …….”

يقول الشيخ ابن عاشور في تفسير الآيه : ” الظاهر أن معناه فإذا عزمت على الأمر الذي تشاورهم فيه فافعله وتوكل ، ففي الآيه ايجاز بحذف متعلق عزمت ،

                                                                                                                                                  ( 5 )

 وحذف جواب ( إذا ) استغناء عنهما بما دل عليهما من قوله ( في الأمر )

والذي يتتبع مصادر الشريعة ومواردها يدرك أن نصوصها تأبى الاستبداد ، وأن الأمر بالشورى للوجوب ، ولو فرضنا أن رأي الأغلبية أخطأ في أمر من الأمور ، فإن الضرر الناتج عن هذا الخطأ أخف من الضرر الناتج عن ترك مبدأ الشورى وما يتبعه من استبداد الحكام .

يقول الشيخ محمد أبو زهرة في موضوع إلزامية الشورى : ” خير للجماعات أن تخطىء وهي حرة الإرادة في أمر نفسها ، وأن تتعلم من تجاربها من أن يفرض عليها رأي ولو كان صواباً ، فإن ضغط الإرادة وما يترتب عليه من الضيق

                                                                                                                                                  ( 6 )

 والإعنات والإرهاق النفسي أشد ضرراً على حياة الأمة حاضرها ومستقبلها ”

ويقول الاستاذ عبدالله ابو عزة : ” الخليفة لا يكون فريداً أو عملاقاً بين أقزام ، بل يكون واحداً من بين نخبة يتقارب أفرادها تقارباً شديداً في مستواهم ، حتى ليكاد يصعب التمييز بينهم ، وسيظل من حوله يقاربونه ، وستظل حصيلة آرائهم

( 7 )

 أكبر من حصيلة رأيه هو منفرداً على الأرجح ”

ويقول الشيخ رشيد رضا : ” أيصرح كتاب الله بأن الأمر شورى ، فيجعل ذلك أمراً ثابتاً مقرراً ، ثم يترك المسلمون الشورى لا يطالبون بها وهم المخاطبون

( 8 )

 في القرآن بالأمور العامة ”  وإذا كانت الشورى تنصب على أمور ليس فيها نص غالباً ، وهي كثيرة ومتشعبة وإذا كان الحاكم ينفذ رأيه لا رأي أهل الشورى ، فمعنى هذا أنه خبير في كل شيء ، وأنه قد أحاط بكل شيءٍ علماً ؟!

بين الشورى والديمقراطية

نتحدث عن الشورى حيث يجري فيه تبادل الرأي ، وتجري فيه التفرقة بين كثرة الأقوال وصواب الأقوال ، والصواب هو لأهل الذكر ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) الفرد في الشورى هو ضمن أجواء عقدية وأخلاقية ، هو عضو في مجتمع له ثقافة وتقاليد ، وهو يرى الاختيار جزءاً من واجباته الدينية ، الفرد في النظام الديمقراطي الغربي يتبع حزباً من الأحزاب يرتضيه حسب برنامجه السياسي ، وهذا الفرد لا يهتم كثيراً بدين مرشح الحزب أو عقيدته وانتمائه .

الشورى في النظام السياسي الإسلامي خاضعة للشريعة التي رسمت الحدود التي لا يجوز تجاوزها ، فإذا صدر قرار من الأغلبية يخالف مبادئ الشريعة ، فإنه سيكون باطلاً ديانةً ، والديمقراطية لا تعرف الحدود الثابتة ، وحتى الحدود الثابتة التي كانت بالأمس في بلاد الغرب خرقتها البرلمانات المعاصرة أخيراً . في الشورى حل لمشكلة التلاعب بالقوانين وتعديلها حسب ما يراه السياسيون ، إن الواقع التاريخي للأمة الإسلامية يثبت أن الحكام لم يتدخلوا في شؤون اجتهاد العلماء في استنباط الأحكام ، أو لا يستطيعون التدخل لأن أمر الفقه والاجتهاد ليس تابعاً لهم ، بينما نرى أن الحكام المستبدين اليوم يصدرون الأحكام والمراسيم ويطلبون من برلماناتهم التصديق عليها . فالدول الإسلامية وإن لم تمارس الشورى على حقيقتها ولكنها لم تتجرأ على إصدار القوانين خارج نطاق الشريعة . في الشورى لا يطرح التصويت العددي مباشرة ، بل يستمر الحوار للوصول إلى الإقناع وحتى يصل الأمر إلى الإجماع أو الأكثرية ، وفي الشورى لا بد من شروط معينة في المرشح لمجلس الشورى ، شروط تؤهله لأن يمارس الرقابة على السلطة التنفيذية ، وأن يكون ممثلاً للأمة في جميع مناحي حياتها ، فلا يطمح للوصول إلى هذا المنصب أحد بسبب ما عنده من ثروة أو بسبب ذلاقة لسانه أو ممن يلتف حوله الناس لعصبية جاهلية .

لقد حدد الإسلام المضامين والمبادئ في أمور الحكم ولم يحدد الهياكل والمؤسسات التي تدير شؤون الناس وهذا يعطي الشورى المرونة والاتساع ، ولوحدد الهياكل لوجب أن تتبع في كل مكان وزمان .

الاجتهاد الدائم وتطوير النظم

إن هذه الفروق وغيرها لا تعني الوصول إلى إجابات نهائية في كل قضية مطروحة ، ولكنه الاجتهاد الدائم والاستفادة من الماضي والحاضر دون أن نفقد هويتنا وثقافتنا . النماذج الجاهزة المستوردة من الخارج لا تصلح للمجتمعات العربية الإسلامية الحديثة ، ولا التي تؤخذ حرفياً من تراثنا وتاريخنا ، لا بد من الاجتهاد وإعمال الفكر وأخذ أوضاعنا الحالية في الاعتبار .

وإذا كان الواقع أنه سيكون هناك انتخابات وبرلمان ، فمن باب التدرج أن تكون مهمة هذا البرلمان إشرافية على الحكومة ويهتم بالقضايا التنفيذية والإدارية

                                                                                                                                                  ( 9)

 والمالية على ألا تتعارض معارضة صريحة مع الشريعة الإسلامية  ويضاف إلى هذا البرلمان المنتخب رؤساء النقابات لأنهم منتخبون من أعضاء نقاباتهم . ويكون بجوار هذا المجلس مجلس آخر يضم النخبة من علماء الشريعة والبارزين من أهل الاختصاص في السياسة والاقتصاد والإعلام والعلوم العسكرية والطب ، وهذا المجلس يصدر القوانين المناسبة تحت مظلة الشريعة ، أو يحق له الاعتراض على القوانين التي يصدرها المجلس الأول إذا كانت مخالفة للشريعة المشكلة التي ستبرز هنا : من الذي يختار هذا المجلس أو كيف يتم اختيار هذا المجلس . وما هي الشروط المطلوبة ؟ خاصة وأنه لا سابقة وتجارب في هذا الصدد ، وإن كانت الشروط المطلوبة قد كتب فيها مثل قول الإمام الجويني ” أن يكون ذا بصيرة متقدة ، من الذين حنكتهم التجارب ، البصيرون بما يصلح

( 10 )

 للسياسات ” قال البخاري : ” وكان القراء ( العلماء ) أصحاب مشورة عمر،

( 11 )

 كهولاً كانوا أو شباناً ، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل ” وأمر الشروط سهل يمكن الاتفاق عليه . وأما طريقة اختيار المجلس الثاني ( مجلس الشورى ) فهذا مما يجب الاجتهاد حوله ، فقد يكون من خلال لجنة حيادية ، بعد أن تستمزج وتسمع لآراء الجمهور الذين يعرفون هؤلاء وعلى صلة بهم وإذا كان السعي هو للتجديد والاجتهاد في وضع الأطر والنظم في أمور الشورى ومن يمثل الأمة ، ولا نريد التقليد السهل فإنه من البديهي أن الحكومة المقبولة ليست هي الحكومة الثيوقراطية ولا النظام الديمقراطي ولا الاستبداد ، المطلوب هو شيء مختلف الشريعة هي الأساس والشريعة غير جامدة على نصوص قانونية محددة .

إن من الاشكالات التي ترد على أذهان بعض المسلمين ظنهم أن شكل الحكم قد حدد وليس هناك صورة أخرى له ، وهذا من الجمود الذي نهى عنه القرآن الكريم ، وإن استدعاء صورة معينة وتطبيقها على الواقع دون معرفة خصوصية هذا الواقع وتعقيداته أمر لا يفيدنا اليوم . يقول العالم ابن برهان ( ت 518) هـ

” ان الشرائع سياسات يدبر بها الله عباده ، والناس مختلفون في ذلك بحسب اختلاف الأزمنة ، فلكل زمان نوع من التدبير وحظ من اللطف والمصلحة

( 12)

 تختص به ” . ويقول العلامة ابن عاشور : ” قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نبوته غير معرج على تبيين من يخلفه في تدبير أمور المسلمين ، ولو كان للأمة مصلحة في بيان ذلك لبينه فيما بيّن ، فترك العهد والوصية ، لأن الله لم يأمره ببيان ذلك ، ولعل حكمة السكوت عن هذا الأمر قصد التوسعة على الأمة في طرق اختيار ما يليق بحال مصالحها في مختلف الأحوال والأعصار والأقطار ، ومن حكمة ذلك أن لايكون لولي الأمر دالة على الأمة بحق عهد أو

 ( 13 )

 وصية بل يكون لها الكلمة في اختيار من يلي أمورها دون شائبة اكراه ….”

ويقول الشيخ صبحي الصالح : ” فالشرع الاسلامي لم يدخل على الناس في معترك الحياة بتطورات مثالية فلم يتمثل في مراحله الأولى جميع الأطوار السياسية التي ستتعاقب على أمة الإسلام ، وكانت هذه مزية له على كل النظم السياسية في القديم والحديث ، وكأنما آثر الاسلام بتركه صورة الحكم بسيطة لا تعقيد فيها أن يتنافس المسلمون في بناء مجتمعهم تبعاً لما يصيبون من أسباب الحضارة والنماء ، فالمهم هو المضمون ، أي تطبيق النظم الإسلامية والعدل الإسلامي ، وهذا الذي تحدث عنه ابن تيمية حين طفق يدعو للإصلاح الداخلي

( 14 )

 في الدولة المملوكية لمواجهة الانقسام والتصدع الداخلي .

وقد كان الإمام الطرطوشي مدركاً لهذه الصعوبات في التطبيق على أرض الواقع ، وأنه لا بد من التدرج في ذلك ، وقد عاش فترة من حياته في مدينة الاسكندرية التي كانت تحت حكم الدولة العبيدية الباطنية ( الفاطمية ) يقول رحمه الله : ” فلا يقوم السلطان ( الحكم ) لاهل الايمان ، ولا لأهل الكفر إلا بإقامة

                                                                                                                                                  ( 15 )

 العدل النبوي أو ما يشبه العدل النبوي من الترتيب الاصطلاحي ” ويعني بالترتيب الاصطلاحي ما اتفق عليه البشر من السياسة العادلة .

إننا بحاجة لاجتهاد في هذه الأمور ، ولا نقع فريسة الحلول السهلة ونستورد ديمقراطية ( جاهزة ) والشورى المطلوبة تحتاج الى ثقافة معينة وإلى إعداد وتربية ، حتى يكون حسن الاختيار فقد يظن بعض الناس أن المجتمع الذي عاش فترة معينة تحت حكم ظالم ، ثم جاءت حركة إصلاحية أو ثورة على النظام القديم ، هذا المجتمع سيتحول الإنسان فيه بشكل مفاجئ الى إنسان مختلف تماماً عن وضعه السابق وهذا خطأ واضح ، فالتحولات لا بد لها من زمن تجري فيه التربية والإعداد ، ولا بد من تغطية الهوة بين ما هو ضروري ومطلوب وغاية ، وبين ما هو ممكن وتحت سقف الاستطاعة . والناس حين يرون التخطيط على مقاييس كبيرة ، مع اقتراح الخطوات العملية المباشرة ، فإنهم يتشجعون ويتغلبون على ما في نفوسهم من التحفظات أو نقص في العلم .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ ساعد نظام الاقطاع ثم وجود الطبقة الوسطى استقرار الأوضاع في الغرب بينما تركيبة مجتمعاتنا تختلف عما في الغرب. 

2 ـ انظر ما كتبه مالك بن نبي في ( ميلاد مجتمع ) و ( تأملات ) .

3 ـ محمد البشير النيفر : نبراس المرشدين في أمور الدنيا والدين / الدار التونسية للنشر .

4 ـ التفسير الكبير  5 /69 .

5 ـ أصول النظام الاجتماعي في الاسلام / 73 .

6 ـ المجتمع الانساني في ظل الاسلام / 175 . 

7 ـ مجلة المجتمع العدد 34 .

8 ـ تفسير المنار 4 / 204 .

9 ـ حتى في البرلمانات الغربية ، لا يترك كل شيء للأغلبية ، فالدساتير عندهم تحتوي على نصوص لا يمكن تغييرها كمبدأ فصل السلطات .

10 ــ الغياثي / 64 .

11 ـ كتاب الاعتصام ، فتح الباري 13 / 339 .

12 ـ نقلاً عن كتاب : أدب الاختلاف / 160 للدكتور طه جابر العلواني .

13 ـ أصول النظام الاجتماعي في الاسلام / 208 .

14 ــ الإسلام والحضارة / 12 .

15 ـ سراج الملوك / 174 ت البياتي .  

العودة إلى التربية القرآنية – كي نفهم القرآن

د. محمد العبدة

يتحدث القرآن عن أناس ناعياً عليهم وموبخاً لهم لأنهم لايتدبرونه ويقفلون عقولهم وقلوبهم عن النظر في آياته ومافيها من الهدى والنور ، وما فيها من خير لسعادة الإنسان ، قال تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) محمد / 24

وقال تعالى : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) ( الإسراء / 9 ) وقد امتن الله سبحانه على العرب والناس أجمعين بأنه أنزل هذا القرآن بلسان عربي مبين، لأن هذه اللغة الشريفة هي من الاتساع والدقة ما يؤهلها لتستوعب المضامين العقدية والأوامر الإلهية ، قال تعالى : ( إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ) يوسف / 2           فهو شرف لمن نزل القرآن بلغتهم وهو مسؤولية أيضاً عليهم أن يحملوها ، ولعل الناس بمجموعهم يعقلون أهمية هذه اللغة لمعرفة مقاصد القرآن لإصلاح البشر .

لاشك أن العرب يوم نزول هذا القرآن كانوا أقرب فطرة وأجود سليقة لفهم الآيات التي تتنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ومراد الله منها . الأصل في ألفاظ القرآن أن تحمل على المعاني الشرعية ابتداء ثم العرفية ثم اللغوية ، فعندما تذكر الصلاة أويذكر الصوم والحج فإنها تحمل على العبادات المعروفة ، وإن كانت الصلاة في اللغة تعني الدعاء ، والصيام يعني الإمساك ، والحج يعني القصد ، إلا إذا كانت هناك قرينة تدل على المعنى اللغوي كقوله تعالى : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم وصل عليهم ) التوبة / 103 ، فالصلاة هنا تعني الدعاء ، والدليل ما جاء في الحديث ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) وكذلك يقال في الجهاد والهجرة فالأصل هو المعنى الشرعي إلا إذا كان السياق يدل على شيء آخر ، مثل قوله تعالى ( وجاهدهم به ) أي بالقرآن والدعوة إلى الإسلام . وبعض المصطلحات يجب أن تحمل على معهود العرب من الخطاب ، فقوله تعالى ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) لايعني حل شحم الخنزير كما توهم بعض الناس ، لأن اللحم إذا أطلق في اللغة فإنه يشمل الشحم أيضاً ، ومثال آخر : وهو أن العرب تقول : أحبك ما تعاقب الليل والنهار أي أبداً ، فقوله تعالى ( خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ) تعني الخلود الدائم أي التأبيد ،فلا يعني إذا زالت السماوات والأرض أن ليس هناك خلود ، بل هو التأبيد حسب لغة العرب ، ولا تفسر بعض الكلمات في القرآن على المصطلحات الحادثة ، فالقرية تأتي في القرآن بمعنى المدينة ولكنها اليوم تعني البلدة الصغيرة ، والصدقة في القرآن تعني الزكاة وأحياناً صدقة التطوع ، ولكنها في العرف الفقهي تعني صدقة التطوع فقط ، والولي في القرآن يعني الناصر والمساعد والمقرَب والمحب ولكنها في عرف الصوفية تعني صنفاً من الناس يعتقدون بظهور الخوارق على أيديهم وليس هذا مقصد القرآن .

ومن أساليب القرآن أنه يذكر شيئاً ولا يذكر المقابل له لوضوحه من خلال السياق ، فقوله تعالى ( وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر ) ولم يذكر البرد وذلك للعلم به من باب التنبيه ، فإذا امتن على العباد بما يقي الحر فما يقي البرد أعظم ، وهذا كما جاء في الحديث ( من اغبرت قدماه في سبيل الله ) يقال : فالوحل والثلج أعظم ( 1 ) .

وقد تفهم الآية من خلال ما يسمى مفهوم المخالفة كقوله تعالى (  ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) البقرة /2 أي أن غير المتقين ليس هدى لهم كما صرح بذلك في آيات أخر ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمىً ) فصلت / 44 وقوله ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولايزيد الظالمين إلا خسارا ) الإسراء / 82 والخسار هو الهلاك ،فالقرآن يوفر للإنسان ما يؤدي إلى نقيض الكفر ، والظالم هو الذي يسمع القرآن ومع ذلك يستمر في كفره ، وإذا كان الكفر خسارة فإن الاطلاع على القرآن مع الإصرار على الكفر يزيد تلك الخسارة ، والمقصود بالهدى هنا هو الهدى الخاص الذي هو التوفيق للإنسان لاتباع دين الحق ، وليس الهدى العام الذي هو ايضاح الحق ، فهذا مبذول لكل الناس كما قال تعالى ( فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) فصلت / 17 أي بينا لهم طريق الهدى وطريق الضلال فاختاروا طريق الضلال .

وقد تأتي الكلمة في القرآن إلى جانب كلمة أخرى كأنها معها وهي غير متصلة بها ، ومن لم ينعم النظر يحسب أن جزأي الكلام متصلان لفظاً ومعنى لشدة الانسجام بينهما ، قال تعالى : ( قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ) هذا من كلام امرأة العزيز ثم أتى بعده ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ) وهذا من كلام يوسف عليه السلام . وكذلك قوله تعالى حاكياً قول ملكة سبأ ( قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ) هذا من كلام ملكة سبأ ثم تتمة الآية ( وكذلك يفعلون ) وهذا قول الله تعالى .

وقد تأتي إرشادات القرآن معتبرة الأعراف القائمة بين الناس ، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي : ” إن القرآن يجري في إرشاداته مع الزمان والمكان والأحوال الراجعة للعرف ، فإن الله أمر عباده بالمعروف وهو ما عرف حسنه شرعاً وعقلاً وعرفاً ، ونهاهم عن المنكر وهو ما ظهر قبحه شرعاً وعقلاً وعرفاً ، وأمر بالإحسان إلى الوالدين ولم يعين لعباده نوعاً خاصاً من الإحسان ليعم كل ما تجدد من الأوصاف ، وكذلك قوله تعالى ( وعاشروهن بالمعروف ) أي العرف المعتاد عند الناس في كل بلد وحسب أحوالهم المعيشية ، وقال تعالى ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) الأعراف / 31 ، وقال : ( يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ) الأعراف / 26 فقد أباح لعباده الأكل والشرب واللباس ولم يعين شيئاً من الطعام والشراب واللباس ، وهو يعلم أن هذه الأمور تختلف باختلاف الأزمان والأمكنة ، فتتعلق بها الإباحة حيث كانت ، وكذلك قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) فهذا يتناول كل قوة وفي كل وقت حسب ما يليق به ” ( 2 ) .

  • انظر : ابن تيمية ، الفتاوى قسم التفسير 15 / 218
  • القواعد الحسان لتفسير القرآن / 73

العولمة  والهوية

د.محمد العبدة

لا نبالغ إذا قلنا أن أحد أسباب ضعف الأمة الإسلامية في العصور الأخيرة هو هذا الصراع الخفي والمعلن، والدائب الذي لم ينقطع، بل اشتد أواره في هذه الأيام، هذا الصراع بين تيارين رئيسيين تيار التغريب والليبرالية العلمانية، وتيار التشبث بالهوية الحضارية الإسلامية . ليكون للأمة وجهة توليها وبوصلة ترشدها وأهداف تسعى إليها وتعمل لها ،الواقع الان هو أن القيم متضاربة والمرجعيات مختلفة والثقافة غير متجانسة، وهذا الذي أوجد هذه العزلة وهذه الهوة بين من رفع شعارات الوطنية والليبرالية العلمانية وبين جمهور الأمة التي تحتفظ بعقيدتها وثقافتها مما أدى إلى إعاقة كل مقترح للنهضة، ولم تحصد الشعوب إلا التخلف والضعف، بل أصبح الرأي العام مشوشاً نتيجة هذا الانقسام في حياتنا .إن أي إقلاع حضاري لا يتم إلا إذا اجتمعت القلوب على شيء كبير، شيء سام فوق العصبيات والعرقيات، الدين هو الذي يجمع الشتات بأقوى الروابط، وهو المؤسس الذي يرضى به الجميع أو ترضى به الأكثرية، لأنه تجمع على الجانب الذي به كان الإنسان إنساناً، ولا مجال لتصور الإنسان دون إيمان، فماذا تكون هوية الإنسان في البلاد التي غالبية سكانها مسلمون؟ وعندما نتحدث عن الهوية فإنما نعني شيئا ثابتا دائما مهما تغيرت الظروف أو تقدمت العلوم.

الدين شيء أساسي في حياة البشر، هو الذي يكون شخصية الإنسان فيصبح له رؤية واضحة في القضايا المطروحة،وله رأيه في النظام الدولي وما يسمى ( العدالة الدولية )  وله رسالة يحملها وبالتالي له دور ايجابي في تقدم البشرية نحو الأفضل ،لا يمكن للإنسان أن ينظر للآخرين نظرة قيمية إلا إذا كان صاحب رؤية وهوية ، الإنسانية اليوم معطوبة من طول الاغتراب وعدم الاكتراث بالخير والعدل، وعندما يتحصن المسلم بهويته يتكون عنده القدرة على الاختيار المناسب، فهو لا يرفض كل ما عند الآخر إذا كان صحيحا ومفيدا ولكنه يختار. والمسلم يعلم أن هذا الدين ليس منحصرا في المسجد أو في قانون الأحوال الشخصية، لأنه يقرأ القرآن كل يوم وهو يرى توجيهات القرآن التي تغطي مناحي الحياة السياسية والاقتصادية الاجتماعية.

هل يمكن تجاهل قضايا مثل المنشأ والمصير والغايات، إن تجاهل مثل هذه الأمور لا يفرز إلا رؤوسا فارغة ليس لها هم إلا الاستهلاك والحرص على الحياة أي حياة ولو كانت تافهة.

في الغرب يعلمون أثر الدين في حياة الانسان وأنهم بحاجة إليه كما يذكر المؤرخ الأمريكي ( ول ديورانت ) 1ولكن الليبراليين عندنا والعلمانيين يريدون إزاحة الدين بالكلية من حياة الإنسان ، تقول وزيرة الخارجية الأمريكية سابقاً ( اولبرايت ) في كتابها الجبروت والجبار : ” فالدين جزء كبير مما يحفز الناس ويشكل آراءهم في السلوك العادل والصحيح ” ( 2 ) وفي بريطانيا الملكة هي رئيسة الكنيسة وفي هولندا أن يكون الملك بروتستنتيا  شرط رسمي (3)، وفي البرتغال ينص الدستور على أن الكاثولكية هي دين الأمة وأسبانيا تسمح بوجود مرشدين روحيين في الثكنات العسكرية والمستشفيات والسجون . يقول وولتر رسل ميد في مجلة الشؤون الخارجية : ” إن الدين يلعب عادة دورا رئيسياً في السياسة والهوية والثقافة الأمريكية ، فالدين يشكل شخصية الأمة ويساعدها في تشكيل أفكار الأمريكيين عن العالم ” ( 4) وتضم المؤسسة العسكرية الأمريكية 3000 من المرشدين الروحيين حسب تعبيرهم ،والمحافظون الجدد في الحزب الجمهوري لهم وجهة دينية  وفي الكيان الصهيوني يوجد ما يعرف بمعاهد تكريس الهوية اليهودية وهي معاهد تابعة لوزارة التعليم الرسمية (5 ) فالغرب لم يتخل عن الدين بالكلية كما يدعي الليبراليون أو كما يتوهمون أو يتجاهلون ، ولكن الغرب غلب مصالحه الدنيوية إذا تعارضت مع أسس الدين أو الأخلاق .

جاء في صحيح البخاري أن اليهود قالت لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ” إنكم تقرأون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً ” يعنون قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) فإذا كانت أمة من المناوئين للإسلام حاسدين لأهله قد قالوا في آية واحدة لاتخذناها عيداً فكيف يكون الأمر إذا نظرنا إلى القرآن العظيم كله

هناك تجارب حديثة توضح لنا كيف أن أمة من الأمم أخذت بالتقدم العلمي ولكنها لم تنسلخ عن هويتها وعاداتها وتقاليدها ، ألم تحزم اليابان أمرها وتحدد هدفها وتنقل التقنية الغربية وذلك عندما هددت في القرن التاسع عشر بضرورة فتح التجارة مع أمريكا ، لقد تصرفوا بلباقة وعلموا أنه لابد من تعلم التقنية الغربية ، لقد تأوربت اليابان كي تبقى أكثر يابانية كما يقول الكاتب ( فلسيان شاللي ) ( 6 )  ويرى ( لي كوان يو ) رئيس سنغافورة سابقاً أنه يجب تطوير صيغة غير الصيغة الغربية للديمقراطية ، ومع الأسف لم تتكرر تجربة اليابان في العالم الإسلامي ، يستثنى من ذلك ما قامت به ماليزيا وما تقوم به تركيا اليوم رغم صعوبة الأمر .

إن من المفاهيم التي تؤسس للهوية والتي ركز عليها القرآن كثيرا مفهوم (الأمة )وهو مفهوم عقدي سياسي قد لايوجد له نظير عند الأمم الأخرى ، والذي يعني الوحدة في المصدر والوحدة في الاتجاه ، وهو مغاير تماماً لمفاهيم الوطنية الضيقة أو القومية أو أي تجمع على أساس جغرافي أواقتصادي ، الوطن الإسلامي الأول الذي تكون في المدينة استمد حقيقته من كيان الأمة ، لا أن الأمة تستمد حقيقتها من الوطن وحدوده الترابية ، حتى لو وجدت وحدات سياسية منفصلة ولكن الفرد المسلم يشعر بالانتماء إلى الأمة ، وهذا يعطيه شعوراً بالأمن ، وجدت داخل الحضارة الإسلامية انتماءات عرقية وديانات أخرى ولكنها عاشت تحت مظلة هذه الحضارة لأنها حضارة مستوعبة وفيها عدل ورحمة ، وعندما تزعزعت المؤسسة السياسية بقي مفهوم الأمة قوياً وحفظ كيان المسلمين .

إن الغرب وإن رفع شعارات مثل حقوق الإنسان ونشر قيم الحرية والديمقراطية ولكن النظام الرأسمالي هو المهيمن ، وهوية هذا النظام هي ( العولمة ) والمؤسسات الكبرى التي نتجت عنها ( البنك الدولي ، منظمة التجارة العالمية ، الشركات العملاقة عابرة الحدود والقارات ) وخطورة هذه الهوية الرأسمالية أنها تدعي الإنسانية في أهدافها وأعمالها ، وفي حقيقتها مالية ثقافية ،وفي جانب منها دينية .

العولمة مرحلة من مراحل الرأسمالية الليبرالية ، وهي تعني التمدد نحو العالم ، أي إعادة تشكيل العالم وفق النموذج الغربي كما تقول الباحثة ( حنة أرنت ) وكأنهم يريدون أن يتنفس العالم برئة واحدة وينظر بعين واحدة ، وهو شيء مخالف لطبيعة البشر ولسنن الله في اختلاف الخلق ، ينظر المسلم إلى العالم بأنه ينقسم إلى عالمين : عالم الإسلام وعالم غير المسلمين ، أو أمة الإجابة وأمة الدعوة ، والعولمة تريد فرض قانون واحد وكأن ليس للمسلمين دور في هذا العالم .

أطلق مصطلح العولمة في البداية لما رأوا أن الإعلام حول العالم إلى قرية كونية ، ولكنه وجد مجاله الأول في الاقتصاد ، ثم جاء محمولاً على أعناق وأكتاف ثورة الاتصالات ، واكتسحت الشركات الكبرى الدول والحدود ، وسجلت نفسها خارج السواحل للتهرب من الضرائب ،وأصبح مدراء الشركات هم رؤساء العالم ، وظهرت فكرة الليبرالية التي تنادي بتقليص نشاط الدولة في مساعدة الأفراد والمجتمع وانتهاء دولة الرفاه ، وأن هذا العصر هو عصر ( السوق ) وساعدت التقنية الحديثة في ربط فروع هذه الشركات مهما كانت متباعدة ،وأصبح السريع يلتهم البطيء وكان في السابق الكبير يلتهم الصغير .

ولكي تستمر هذه الرأسمالية المتفوقة أو المتوحشة لابد من مستهلكين ، ولابد من إشاعة ثقافة الاستهلاك في كل الأرض ، وإذا استعصت بعض الشعوب على ذلك فلابد من تغيير ثقافتها وفكرها أيضاً ، فهذه العولمة ليست قوانين تجارية وحسب ، بل قيم معينة تطبق على تركيب مجتمع ، وكلمة السر هنا هي التسويق marketing  كل شيء قابل للتسويق ، وما هي إلا أن يقول الإعلام أن هذا الشيء ضروري من ضروريات الحياة حتى يبادر المستهلك إلى الشراء ، لقد أصبح الإنسان محكوماً من الأشياء التي صنعتها يداه( 7 ) إنها وثنية جديدة ، وبواسطة الإعلام ( كلب الحراسة للرأسمالية ) يتطور الاستهلاك ليصبح مفروضاً على الإنسان ، ليأكل أكثر ويتبضع أكثر ويتملك أكثر ، يكدس المشتريات وإن لم يستعمل الكثير منها ، هناك أطراف تملي المواقف وأطراف تستقبل وتذعن . وبسبب ضخامة النظام الصناعي ( شركات ، سوبرماركات ) فقد أصبح كثير من الناس موظفين وبالتالي هم تابعون لرؤسائهم ، هم لم يبيعوا قوة عملهم فقط بل باعوا شخصياتهم ( ابتساماتهم ، أذواقهم ، صداقاتهم ) خوفاً من الفصل من أعمالهم .

بواسطة العولمة فإن البنك الدولي يغير النمط الثقافي للمجتمع ، ففي بلاد مثل مصر أو الهند تتغير القوانين طلباً للاستثمار ، والبنك الدولي يقدم قرضاً لدولة من دول الطغيان فيتصرف الحاكم وأسرته في تبديد هذا القرض وحين يأتي موعد دفع الديون لايقول الحاكم أنه اشترى عمارات وسيارات وأودع الباقي في بنوك سويسرا ، ولذلك توزع مسؤولية الدين على أفراد الشعب عن طريق تقليص الانفاق العام وتقليص دعم السلع الأساسية ، وكأن الوطن أصبح برسم البيع . واستغلت العولمة الأمم المتحدة لتتدخل في خصوصيات المجتمعات الأخرى ، ففي مؤتمر عن المرأة عام 2000 تم إضفاء الصفة القانونية على الانحطاط الاخلاقي وترجم مصطلح feminism بالأنثوية وهذا لا يعني شيئاً فالأنثى انثى  والمعنى الحقيقي هو فصلها عن الرجال وتأكيد هويتها الفردية على حساب هويتها الاجتماعية كزوجة وأم وبنت . والليبرالية الجديدة تبحث عن مفهوم جديد لسلطة الوالدين ، أي عن إضعاف هذه السلطة لأنها بنظرهم من معاقل النظام الديني . وعندما تأتي الشركات الكبرى إلى بلد ما فإنها تأتي أيضاً بأنماط ثقافية معينة ( هدايا الكرسمس ، هالوين دي ، حمامات سباحة مختلطة …. )

إن العولمة بتغليبها الجانب الدنيوي أدت إلى الاستلاب والاغتراب ، لأن جيل الشباب الذي لا يجد في الجامعات نهمه إلى الثقافة وإلى الدين الذي يلائم فطرته ،سيدفعه ذلك إلى صرعات وثنية أو الحيرة والضياع . وفي العولمة أصبح الترف مقبولاً في أكثر المجتمعات حيث تحولت هذه المجتمعات إلى عبادة المظاهر والأشياء المادية  ، ومن الغريب أن العولمة وهي تدعو إلى توحد العالم تحت سياق معين ولكنها في الوقت نفسه تحاول تفتيت المجتمعات ، فهي تنادي بدعم جماعة دينية صغيرة بحجة أنها أقلية ، وجماعة عرقية صغيرة بأنها أقلية وهكذا الشواذ جنسيا ً أقلية .

قد يقال : إن هذه العولمة تعزز الهوية عند الشعوب التي تتسلح وتعتز بدينها وثقافتها ، لأنها ترى أنها مستهدفة فترجع إلى تراثها لتصمد أمام هذه الموجة وأيضاً فإن ثورة الاتصالات وسهولتها مما قرب بين أبناء البلد الواحد وأبناء الدين الواحد رغم بعد المسافات فيما بينهم . هذا صحيح ولكن المشكلة والتخوف أن تكون ردة الفعل تجاه العولمة متشنجة ولا تستطيع أن تتعامل مع الواقع بطريقة صحيحة ، ولا تمتلك مبادرة للبديل المناسب ، والمفروض أن يكون البديل جاهزا ، فالإسلام بطبيعته عالمي يقدم الخير للبشرية ويستفيد من العلم النافع ، وهناك فرق بين الثقافة والعلم ( الطبيعي ) فالثقافات تتعدد  والعلم مشاع بين البشر ، والمسلم لا يقف حائراً أمام أي جديد ولكنه يختار ما فيه نفع

“لن يتأثر المسلمون بغرب يرونه مبشراً بقيم استهلاكية وفضائل لا أخلاقية وبركات الإلحاد ” كما يقول مستشار الأمن القومي الأمريكي سابقاً ( برجينسكي ) ( 8 ) وعقلاء الغرب يدركون هذه الحقيقة ، يقول ( آلان تورين ) عن الذين يطلبون من المغتربين الاندماج والذوبان في المجتمع الغربي : ” ليس موقفاً ديمقراطياً أن يقال للمغتربين تجردوا من ثقافتكم وادخلوا عراة إلى عالم جديد ، إنها صفاقة واحتقار للثقافات والخبرات المغايرة لخبراتنا ” ( 9 )

لقد فشلت كل المشاريع التغريبية خلال القرن الماضي ولم تحقق أي إنجاز يذكر ، والدول العربية مثال صارخ على ذلك ، ما زال الجدل قائماً حول الهوية  ، بل تجذرت الخصوصيات الوطنية ، حتى أصبحت معتقداً للإنسان العادي فضلاً عن المثقفين ،وبولغ في العادات والخصائص المحلية حتى أصبحت كل قرية لها عاداتها ، وتغذي هذا المفهوم الضيق السياسات التعليمية والإعلامية ، وهذا نكوص وتراجع للوراء ، وحتى تحقق الدولة نموذجها الوطني الليبرالي لابد أن تحطم بناء الأمة ، وهذا الذي أدى وسوف يؤدي إلى الفشل والتراجع .

لم تنجح العولمة بل قسمت العالم إلى فقراء فاقدين للأمل وأغنياء صم الآذان ، وجعلت الأجيال القادمة ترث أرضاً قاحلة ، وبعض الدول الرأسمالية عندما وجدت آثار العولمة راحت تسن القوانين التي تصب في مصلحتها .

إن التغيير يكون بالتجديد من الداخل وليس بالتنازل عن الهوية ، وهذه الهوية لا يمكن العدول عنها ولا عن جزء منها لأنها الإسلام ،القرآن هو الذي أعطانا الهوية (هو  سماكم المسلمين من قبل )، ونحن حين نتحدث عن الإسلام نرفض التفريط والتبسيط تحت شعارات تطالب بالتنازل عن الأصول والتخلي عن المعقول في سبيل إرضاء أطراف تجس نبض المسلمين ، وحتى يصل الأمر إلى الأذية في الدين ، ولأن فصل المسلمين عن دينهم هو مناصرة للعدو الأجنبي .

الكتلة الكبرى هي التي تستطيع أن تناور في مثل هذه الأجواء الخطرة ،فالعولمة إذا تركت فإنها سوف تؤثر على كل الخصوصيات ،كتلة العالم الإسلامي ( من طنجة إلى جاكرتا ) كما يعبر المفكر الجزائري مالك بن نبي ، تناور من خلال تنمية النظام التعليمي لتكون قادرة على الاستجابة للمتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية ، من خلال نظام معرفي أكاديمي مشترك ، ولعل إشاعة اللغة العربية يكون شيئاً مهماً لتقابل عولمة الإنكليزية ، وفي تركيا بداية طيبة لتعليم اللغة العثمانية وهي بالأحرف العربية ، لتتمكن الأجيال الجديدة من قراءة تاريخها ، فاستعادة تاريخنا الحضاري خاصة مما يعطي الشباب الثقة والانتماء .

الكتلة الكبرى هي التي تستطيع البحث عن الأحلاف الممكنة ، وهي التي تخطط لصيانة الهوية دون انغلاق يؤدي إلى مزيد من التدهور ، وهي التي تملك القدرة على الاستقلال الاقتصادي وهو شيء مهم لصيانة الهوية .

الإسلام هو المستعد للمنازلة ثقافياً وحضارياً ، لأنه الوحيد الذي يملك رؤية واضحة لدور الإنسان ونظرته للكون والحياة ، ونظرته للعام ووسائل العلم ،

الملل والمذاهب والشعوب الأخرى لا تستطيع مقاومة الثقافة الغربية التي تكتسح العالم اليوم ، وهذا أحد أسباب الخوف من الإسلام وأحد أسباب اهتمام العولمة الثقافية بالعالم الإسلامي خاصة .

  • دروس التاريخ / 103
  • الجبروت والجبار / 242
  • ايليا حريق : الديمقراطية وتحديات الحداثة / 258
  • الهيثم زعفان : مكانة المتدين في أمريكا واسرائيل / 44
  • المصدر السابق / 68
  • ساطع الحصري : ابحاث في القومية / 436
  • أريك فروم : الإنسان المستلب / 17
  • برجنسكي : الفوضى / 182
  • آلان تورين : ماهي الديمقراطية  / 187 .

الثورة السورية : عقابيلها، التحديات والتجربة التاريخية

د. محمد العبدة

الثورة السورية المباركة في سنتها الرابعة ، وهذا يدل على صمودها وقوتها وأقول: المباركة لأنها كشفت عن مستور المشروع الباطني في المنطقة ، كما كشفت عن نوع الخراب الداخلي في المجتمع الذي عشش فيه وفرخ طوال خمسة عقود.خراب النفوس المريضة التي ألفت الاستبداد وتعايشت معه ، كما وقعت أخطاء لابد من تداركها، وأظن أنه لم يفت الوقت بعد  للقيام بالمراجعات المطلوبة، لأن الثورة حين تخشى أخطاءها فهي ليست بثورة وإذا اكتشفت أخطاءها ثم التفتت عنها ولم تصلحها فالأمر أدهى وأمر، فإنه لا يكفي لربان السفينة أن يقلع بسفينته في اتجاه معين، بل يجب عليه أن يراقب السير على طول الطريق من أجل تعديل الاتجاه من حين لآخر. بعد أربع سنوات وضحت الصورة أمام الجميع ، من المخلص والجاد للقيام بالتغيير والدفع بالثورة لغاياتها ومن يريد الاستفادة من الثورة لمصالحه الخاصة .

قامت الثورة بشكل عفوي وبهمة عظيمة وروح قوية، ولكن الثورات لا يستقيم أمرها دون قيادة ودون معرفة الغايات والمعوقات ومعرفة العقابيل التي تكتنفها والحذر والانتباه لها ودون معرفة واقع العدو وقدراته وإمكاناته والثورة إذا طال أمدها ولم يضبط أمرها تصبح كالمطيّة تسوق من يركبها ولا يسوقها، وتختلط الأعمال والتبعات ويفلت الزمام من الأيدي، فلا يدرى من القابض عليه، ومن هو المتخلي عنه.والواقع الآن أن الدول الإقليمية والدولية هي التي تقرر مصير السوريين وهذا غير مقبول ، وإذا لم يضبط أمر القتال وحمل السلاح فإن قوى خفية تستيقظ في النفوس الضعيفة وتعود إلى حالة من الهمجية في القتل، وينتهي الأمر إلى القضاء على مثالية الثورة وأهدافها وعندما يطول أمد الثورة ولا يكون هناك مراجعات وتخطيط ووضوح فقد يشعر الناس بالإجهاد ويصابون باللامبالاة، وقد يستسلمون لأي شيء قادم ولو كان تافها، ويرضون بالقليل القليل. وفي التاريخ الحديث وبعد فشل ثورة أحمد عرابي في مصر قال الشيخ محمد عبده –وكان قد اشترك فيها – قال كلمته المشهورة : لعن الله السياسة وساس ويسوس وكل مشتقاتها .

وعندما يطول أمد الثورة يخرج الغوغاء والانتهازيون، ويتحكم “الجهلة في بعض الأمور ففي ثورة القاهرة الثانية  (ضد الفرنسيين الذي جاء بهم نابليون) حصل كلام في الهدنة واستدعي كبار العلماء ليسمعوا الشروط، فقامت عليهم العامة وشتموهم، يقول المؤرخ الجبرتي: وكان يشد أزر الغوغاء رجل مغربي وغرضه دوام الفتنة ليكون قائدا يجتمع الناس عليه.

وعندما يطول أمد الثورة يخشى من تسلل طبقة المصالح التجارية والمالية إلى مكونات الثورة من حركات دينية وسياسية، بحيث يتم القبول بحلول ضعيفة أو رديئة لا تضمن مصالح الأمة ففي تجربة نشوء باكستان، كانت القيادة منذ مولد هذه الدولة في يد طائفة من أثرياء المسلمين المتفرنجين، وكان زعماء حزب الرابطة من هذه الطبقة التي انفردت بالصلاحية في مجال تكوين دولة حديثة. وفي تاريخنا القديم كانت الدولة العبيدية والتي تسمى ( الفاطمية ) تحاول التوسع نحو بلاد الشام ولكنها لقيت مقاومة شديدة من مدينة دمشق ” وصمد أهالي دمشق وكاد الإخفاق أن يلحق بالجيش الفاطمي لولا أن جماعة من تجار المدينة قامت فشكلت وفداً قام بالتوسط لدى جعفر بن فلاح ( قائد الغزو الفاطمي ) وبث هذا الوفد التخاذل بين المدافعين مما سبب ايقاف المقاومة وأدى إلى فتح أبواب المدينة لجيش ابن فلاح ” (انظر : الحشاشون ، الاغتيال عند الإسماعيلية ، برنارد لويس ترجمة وتقديم سهيل زكار ) والسؤال : هل في سورية اليوم طبقة برجوازية تعيد الرواية وتخذل المدافعين ؟!!

ومن عقابيل الثورات التي ظهرت في الثورة الفرنسية والروسية والصينية، وقد لا تظهر واضحة في سورية لطبيعة الثورة وطبيعة الشعب، ولكن قد يظهر شيء منها إذا لم ينتبه للأمر، ففي الثورات التي ذكرت أعادت الثورة انتاج نظام فيه شبه بالنظام التي ثارت عليه فظهرت القيصرية في روسيا بثياب جديدة وهو طغيان الحزب والدولة، وفي الصين ظهرت البيروقراطية القديمة في صورة التسلط النظري للعقيدة الماوية .

وضباط مصر الذين ثاروا عام 1952 على الإقطاع والباشوات، تحولوا هم إلى باشوات من نوع اخر، ويكتب المؤرخ المصري  حسين مؤنس كتابه (باشوات وسوبر باشوات) والذين ثاروا على السلطان عبد الحميد واتهموه بالاستبداد وأنه ألغى الدستور هؤلاء عندما استولوا على السلطة حكموا بالبطش وبالنار والحديد

التحديات

هناك عنصر في الثورة فيه غموض، يحلم بماض غير ملوث يريد تحقيقه اليوم هذا الحلم وهذه الاطلاقات العامة من الشعارات لا تكفي، ولا يصلح استنساخ صور جزئية من الماضي وإجرائها على الواقع دون معرفة الواقع والاجتهاد له، يجب أن ترسم الثورة خطاً واضحا حول التغيير المنشود، وقد تصل الأمور إلى الحل السياسي فكيف ستكون المواقف ؟ إن هذا من أكبر التحديات التي تواجه الثورة ، هل تبدأ التنازلات والشروط المخففة ، وهل يصل الأمر إلى تقشير التفاحة حتى لا يبقى منها شيء بحجة الاعتدال وباسم التكتيك وتتخلى الثورة عن بعض أصالتها ورموزها ؟ هل تحتضن الثورة أنصارها وأعداءها بحجة المصالحة والتقارب ، وتكون النتيجة طبعة هجينة من الثقافة والإسلام المدجن  ، ويصبح المواطن كالبصير في بيت مظلم يتلمس طريقه ولا يكاد يهتدي إلا مجروحاً أوملدوغاً . هذا ماوقع في ثورة الجزائر حين غاب العلماء وأصحاب الاتجاه العروبي الإسلامي عن مؤتمر الصومام بعد سنتين من اندلاع الثورة ورفع في المؤتمر شعار : الجزائر جزائرية لاعربية ولاإسلامية  واستمر التخريب .

وإذا كان الغرب لا يريد نجاح أي مشروع إسلامي ، ويعتبرونه قوة مضادة له ، وإذا كان واجب أهل الإسلام أن يعوا هذه الحقيقة ، فإن هذا لايعني إخفاء إسلامنا أو عقيدتنا ، ولكن من الممكن السكوت عن الغايات الكبرى والتحدث عن المرحلة التي نحن فيها والمطالب العادلة التي نريدها .

الحل السياسي الذي يقبل هو الذي يحقق المطالب الأساسية للثورة وللأمة ، وموضوع الحلول السياسية للثورات ليس غريباً على ثقافتنا وتاريخنا ، ومن الأمثلة على ذلك الثورة التي قامت على الحجاج بن يوسف في الكوفة والبصرة ، قام بها العلماء والصلحاء من الناس ، وسميت هذه الثورة بثورة الفقهاء وفيها كبار العلماء والقراء والعباد في ذلك العصر من أمثال عامر الشعبي وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومحمد بن سعد بن أي وقاص وأوس بن عبدالله الربعي وغيرهم كثير . قاموا مع عبدالرحمن بن الأشعث أمير الجيش الذي وجه إلى سجستان ، وكان على خلاف مع الحجاج فلما قرر الرجوع لعزل الحجاج وافقه العلماء وقاموا معه ، وذلك بسبب ظلم الحجاج وعسفه ، قال عنه ابن كثير : ” وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة وكان ناصبياً خبيثاً ”

خرج هؤلاء العلماء لعزل الحجاج وإقامة العدل ، وكان بعضهم هارباً ومختفياً من الحجاج قبل الثورة . التقى ابن الأشعث ومعه العلماء مع الحجاج في معارك كثيرة ، وقد اجتمع أهل الكوفة والبصرة وأهل الثغور على حرب الحجاج ، وغالبها انتصارات للثورة ولكنها طالت لمدة سنتين تقريباً ، ثم جاءت فرصة ثمينة لهؤلاء الثائرين حين عرض الخليفة عبد الملك بن مروان أن ينزع الحجاج وأن يتولى ابن الأشعث أي بلد يشاء مادام الخليفة حياً ، والعفو عن الثائرين معه ، يذكر الطبري أن ابن الأشعث رأى مصلحة في ذلك العرض ولكن بقية الجيش رفضوا هذا العرض وقالوا : لا والله لا نقبل نحن أكثر عدداً وعدة ، بل صرح بعضهم بخلع عبد الملك نفسه ، ولذلك استمر القتال وانهزم ابن الأشعث ومن معه في معركة دير الجماجم ، وقتل من قتل من العلماء سواء في المعارك أو على يد الحجاج مثل سعيد بن جبير رحمهم الله جميعاً .

إن عدم قبول رسالة عبد الملك كان غلطة كبيرة أو استراتيجية كما يقال اليوم ، لأنها كانت فرصة لفرض الشروط المناسبة ، ونحن هنا نتحدث عن الحل السياسي الذي يحقق المصالح العليا للثورة وليس لقاءاً

في منتصف الطريق مع النظام المجرم، فمثل هذا الحل مرفوض ابتداء ولكن الحل المطلوب هو أن  ينظر في الفوائد وفي المصالح والمفاسد ، فالمرونة والثبات على المبادئ ميزة كبرى لأي جماعة أو حزب أو ثورة أو دولة .

ومع المرونة والثبات يجب أن تستمر روح الثورة التي انطلقت من المساجد ، وننشر ونعيد بقوة خطوط الدفاع الإسلامية ( المنزوعة السلاح ) وأعني أمن العقيدة وأمن الشريعة وأمن الثقافة والحضارة ، وأمن الإنسان .

ومع المرونة والثبات نمهد للهدف الكبير ، ونعمل على ماهو مشترك بين الجميع من إقامة العدل ونشر الحرية ودستور يضمن هوية الأمة ، فالثورات التي تقوم على أساس الدين هي التي تقود التاريخ وتمنح الشعوب الوحدة والقوة ، ولاننسى أن التقدم الأوروبي وخاصة في ألمانيا وبريطانيا ثم أمريكا وأعني التقدم الحضاري والصناعي كان من أثر ثورة ( لوثر ) و ( كالفن) ومذهب البروتستانت ، وبعض العلماء يرى أن إصلاحات لوثر الكنسية إنما استفادها من الإسلام

   عودة إلى التربية القرآنية – المحكم والمتشابه

د . محمد العبده

ليس هذا المقال لبحث موضوع المحكم والمتشابه من جميع جوانبه ، ولكن للتركيز على شأن محدد فيه وهو إرجاع المتشابه إلى المحكم في موضوع المشيئة الإلهية التي يتكرر ذكرها في القرآن الكريم ، وإذا رجعنا إلى الآيات التي تتحدث في هذا الشأن نجد إشارة إلى أن القرآن الكريم كله محكم  (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) ( هود 1).

أي هو في غاية الإحكام وقوة الاتساق ، فأخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل ، ولا يتطرق الضعف إلى ألفاظه ، ومن جهة أخرى وصف القرآن كله بالمتشابه ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً )( الزمر23) فهو متشابه في الحسن والهدى والنفع والبلاغة والإعجاز ، ومن جهة ثالثة وصف بأنه يتضمن المحكم والمتشابه ( منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ….)(آل عمران 7) وأم الكتاب أي معظم الكتاب ، فالمحكم هنا هو ما يدل على معناه بوضوح لا خفاء فيه ، ولا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى ، والمتشابه هو ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره ، وهو مما يتعلق به أهل الزيغ ابتغاء الفتنه ، والراسخون في العلم يردون المتشابه المحتمل إلى المحكم الصريح ، ويزيلون ما فيه من شبهة أو غموض ، ولا يسمى أحد راسخاً إلا بأن يعلم من هذا النوع بحسب ما قدر له ، وإذا خفي عليه شيء يقول : ( كل من عند ربنا ) فيصير كله محكم .

فإذا قرأ المسلم هذه الآيات ( ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، وكان الله غفوراً رحيما )(الفتح 14) أو قرأ : ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء )(فاطر 8)  أو قرأ : ( ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ، ولكن يدخل من يشاء في رحمته ، والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير )(الشورى8 ) .

وظن أنها خلاف الحكمة ، أو أن هدايته وإضلاله جزافاً بغير سبب  ـ معاذ الله ـ ، فلا بد أن يرجع إلى الآيات التي توضح هذا الإشكال وهي أن هدايته لها أسباب يفعلها العبد ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام )(المائدة 16) وأن اضلاله لعبده له أسباب وهو تولي هذا العبد للشيطان ( فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله) ( الأعراف30) .

وقوله تعالى ( إنا جعلناعلى قلوبهم أكنّة أن يفقهوه )(الكهف57) أي لئلا يفقهوه ، وذلك عقاباً لهم بسبب

إعراضهم واستكبارهم كما في قوله تعالى ( وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها ) وقوله تعالى ( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ، ولوعلم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) ( الأنفال / 22 ــ 23 )

وقوله تعالى ( أن تكفروا ، فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر ، وأن تشكروا يرضه لكم ) فاتباع الناس لآبائهم ، وإعراضهم واستهزائهم هو السبب في هلاكهم . ( ذلك جزيناهم بما كفروا ، وهل نجازي الاالكفور ) سبأ / 17 ( كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ) ( غافر/ 34 ) .

( ما يفعل الله بعذابكم ان شكرتم وآمنتم ، وكان الله شاكراً عليماً ) ( النساء / 147 )

قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى ( اشتروا الضلالة ) لما تركوا الهدى وأعرضوا عنه ،

( 1 )

ولازموا الضلالة وتكسّبوها مع أن الهدى ممكن لهم ميسر ، كان ذلك كبيع وشراء )

وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يضل إلا الفاسقين ، ومن آثر الضلال على الهدى ،قال الشيخ اليماني ( وفي القرآن آيات كثيرة في أن الله تعالى لا يهدي الكافرين ، والمراد بهم

( 2 )

من استحكم كفرهم ، وليس كل كافر ، فقد هدى الله من لا يحصى من الكفار  .

ومن الآيات المحكمات التي يرجع إليها قوله تعالى ( إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً ، إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا ) (الإنسان / 2 ــ 3 )

هديناه السبيل ، وضحنا له الطريق ، وهو الذي اختار . وكذلك قوله تعالى ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )

ولكن الإنسان رغم ما أعطي من القدرة على الاختيار إلا أنه يبقى تحت تصرف مشيئة الله ، وحتى لا يظن أنه خارج عن مشيئة الله المطلقة ، وهي مشيئة حكيمة مدبرة ، خلقت أسباباً ومسببات وسنناً كونية ، والإنسان يحيا ضمن هذه السنن فالأيات التي تذكر ( يهدي من يشاء ويضل من يشاء ) إنما تأتي للدلالة على انفراده سبحانه وتعالى بخلق الأشياء وتدبير جميع الأمور ، ليتعلق رجاء العبد به وحده ، يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذا الموضوع : ” فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس لصلح العالم صلاحاً لا فساد فيه فالله سبحانه أخبر ، وهو الصادق الوفي أنه يعامل الناس بكسبهم ، ويجازيهم بأعمالهم ، ولا يخاف المحسن لديه ظلماً ولا هضماً ، ولا يخاف بخساً ولا رهقاً ، وإذا أوقع عقاباً أوقعه بعد شدة التمرد والعتوّ عليه كما قال تعالى عن أهل النار ( فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير ) فالجهّال بالله وأسمائه وصفاته يبغضون الله إلى  خلقه ، ويقطعون عليهم طريق محبته والتودد إليه بطاعته  من حيث لا يعلمون ، وذلك حين يقررون أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعة ، وأن العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكره ، ويتلون قوله تعالى ( لا يسأل عما يفعل ) وقوله ( أفأمنوا مكر الله ، فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون ) ( الأعراف / 99 ) وأنه يجوز عليه أن يعذب أهل طاعته ويُنعّم أهل

( 3 )

معصيته )    والذين يقصدهم ابن القيم أرادوا إثبات المشيئة المطلقة لله ، وكل هذا من قبيل العناد وردة الفعل تجاه المعتزله ، الذين تطرفوا وبالغوا في حرية الإنسان وإرادته بعيدة عن إرادة الله ومشيئته ، يقول الشيخ محمد عبدالله دراث : وإذن فبدلاً من أن يؤكد الأشاعرة

القدرة الإلهية الكاملة التي غاب عن المعتزلة تأكيدها ، وبدلاً من أن يجعلوها في مقابل الحكمة التي حاول المعتزلة إبرازها ، نجدهم وبدافع الحمية وقلة الحكمة النظرية ، قد ألغوا

( 4 )

تقريباً الحكمة من أجل القدرة ”

ويتعجب الإنسان من هذا الجدل بين الأشاعرة والمعتزلة مع أن الأمر واضح ، ولكنه الجدل والعصبيات والمماحكات النظرية ، ويوضح هذا الأمر الشيخ ابن سعدي ” وهذه الآيات التي تضاف فيها الأعمال إلى العباد حسنها وسيئها اذا اشتبهت على القدرية ، فظنوا أنها منقطعة عن قضاء الله وقدره ، وأن الله ما شاءها منهم ولا قدرها ، تليت عليهم الآيات

الكثيرة الصريحة على تناول قدرة الله لكل شيء من الأعيان والأعمال ، فالطاعات

(5)

والمعاصي واقعة منهم بقدرتهم وإرادتهم ، والله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم ”

إن الذين وصفهم الشيخ دراز بقلة الحكمة النظرية ردوا النصوص الصريحة الدالة على ثبوت الأسباب شرعاً مقدراً كقوله تعالى ( بما كنتم تعملون ) ( بما قدمت أيديكم ) ردوا ذلك بالمتشابه ( هل من خالقٍ غير الله ) ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) إن ّ الله سبحانه وتعالى أودع سنناً في الكون ، مثل شروق الشمس وغيابها ، ووجود السحاب ونزول المطر ، وحدوث الزلازل ، والعلماء اليوم يتوقعون نزول المطر في يوم كذا ، ولكن من الذي وضع هذه السنن في الكون ، إنها إرادة الله الكونية وقد أودع الله في فطرة الإنسان قوة تعينه على تمييز الحق من الباطل ، وتهيب به إلى المبادرة إلى الحق ، ومجانبة الباطل ، هذه القوة هي التي قال الله عنها ( فطرة الله التي فطر الناس عليها )وتقارعها قوة أخرى تسوقه إلى الباطل ، وتزين في نظره الكذب ، فإذا أناب الإنسان إلى الله ، تجلى له الطريق الذي يتوصل به إلى الله ، وإذا استكبر ولم يشعر بحاجة للإنابة ، فلن تأخذ الكلمة إلى قلبه سبيلا قال تعالى : ( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا ، وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه ، وفي آذانهم وقراً ) ( الإسراء / 45 ) .

إنّ الله سبحانه وتعالى أمر بتدبر القرآن مطلقاً ، وأخبر أنّ القرآن هدى وشفاء ، فلا بد أن تكون جميع نصوص القرآن مفهومة ، وقد فسر السلف جميع القرآن ( مجاهد عن ابن عباس ) وأخبر تعالى أن المحكمات هن أم الكتاب وعمدة ما فيه ) والمتشابه  هو امتحان للعباد كي يرده العلماء إلى المحكم فتسميتهم راسخين يقتضي بأن يعلمون غير المحكم .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ) تفسير ابن عطية  2 / 75 .

2 ) عبد الرحمن المعلمي اليماني : ايثار الحق على الخلق/16 .

3 ) الفوائد  / 208 .

4 ) دستور الأخلاق في القرآن / 99 .

5 ) القواعد الحسان / 69 .