مراجعات مع ( المعالم ) لسيد قطب

د . محمد العبدة

لا أحد يجهل مكانة سيد قطب كداعية ومفكر إسلامي كبير . فقد أثرى المكتبة الإسلامية مبكرًا بمقالاته وكتاباته الواضحة الجريئة مثل : معركة الإسلام والرأسمالية ، السلام العالمي والإسلام ، العدالة الاجتماعية.

كما أثرى الدراسات القرآنية بكتابه : التصوير الفني في القرآن وكتابه : مشاهد القيامة في القرآن.

وكان قمة عطائه تفسيره ( في ظلال القرآن ) ثم ظهر كتاب ( معالم في الطريق) وبعضه استخراج من ( الظلال ) وهذا ( المعالم ) كان له دور  كبير ، وله تأثير واضح على شباب الحركة الإسلامية ، ( والكتاب صيغ بأسلوب يمتاز بالوضوح والقوة والجد والجمال واللهجة الصادقة ، وأغلى ما فيه هذه الروح الاستعلائية الاعتزازية التي تمثل مرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية المعاصرة [1]) .

ومن أسباب تأثير الكتاب أنه ظهر في وقت كان كاتبه من المعارضين للسلطة في بلده ، وهو سجين هذه السلطة التي صادرت الكتاب وحاولت المنع من انتشاره ودفع الكاتب حياته ثمنًا لهذا الصمود أمام الظلم وذهب شهيدًا بإذن الله .

استُقبل هذا الكتاب من فئة وجدت فيه ضالتها المنشودة ورائدها المأمول وأنه هو الطريق الصحيح ، حتى لو وجدت فيه بعض الإشكالات التي يتوقف عندها القارىء فإنها تبرر للمؤلف وأنه كان يقصد كذا ويقصد كذا .

وهناك فئة أخرى تعترف بما فيه من الحق والبيان الواضح ولكنها ترى أن في بعض فصول الكتاب اشكالات هي بحاجة إلى مراجعة وهذا لا ينقص من قيمة الكتاب ولا من قيمة المؤلف ، والدعوة الإسلامية بحاجة دائمة إلى المراجعات بين الفترة والأخرى ، وما جرى في الواقع في هذه الأيام لبعض الحركات الإسلامية يُثبت ذلك .

والمراجعات لا تكون في ثوابت الدين والملة ولكن في فهم النصوص وتطبيقها على الواقع وفي طريقة عرض الإسلام وأساليب الدعوة ، وغير ذلك مما هو رد المسلمين إلى حقيقة الإسلام .

يقول سيد قطب رحمه الله في فصل ( جيل قرآني فريد ) :

” لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية ، كان يشعر أنه بدأ عهدًا جديدًا ، منفصلًا كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية ، كان يقف موقف المستريب الحذر الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام ، كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه ، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله ، فهو قد انفصل نهائيًا من بيئته الجاهلية ، كان هناك انخلاع من البيئةالجاهلية عُرفها وتصورها وعاداتها وروابطها [2].. ” .

هكذا صوّر سيد قطب رحمه الله الشخصية العربية يومها : تنسلخ من كل ماضيها العادات والأعراف والقيم ليصوغه القرآن صياغة مستأنفة ( من الصفر ) وكأنه صفحة بيضاء ، وقد محيت كل ثقافته السابقة .

هل هذا صحيح ؟ هل كل الروابط وكل القيم وكل شيء كان قبل الإسلام ، قبل البعثة المحمدية هو رجس يجب أن تتم المفاصلة التامة معه ؟

الأدلة تقول غير ذلك :

أولًا : القرآن الكريم لا يقطع ما قبله ، أنزله الله سبحانه ليستأنف إتمام الرسالات السماوية ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل ، وهكذا تتصل حلقات التوحيد ” وكل قيمة تمت إلى الحق والخيرهي قيمة معترف بها في نسق الإسلام القيمي ، لا يمنعه في ذلك مانع تاريخي ، لأنه فرع من شجرة التوحيد الأول ، وكل بقية من خير كان عليه الجاهلون ستجد تمامها في الإسلام ، والقرآن الكريم يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه للاعتبار بشهادة التاريخ الذي يقدم القصص القرآني نماذج له ، والغرض العام من القصص القرآني أن يصل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه ومن بعده من المؤمنين بالعمق التاريخي ، قال تعالى : ( ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون[3]) .

والقرآن الكريم يستشهد بعالم من علماء بني اسرائيل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ( ويقول الذين كفروا لست مرسلًا قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب (سورة الرعد 43 ) .

والقرآن الكريم يحتكم إلى العُرف الأخلاقي المعروف بين الناس ، فقوله تعالى : ( يأمرهم بالمعروف ) أي الذي يعرفونه أنه من الفطرة والأخلاق الحسنة .

وفي صحيح مسلم عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت أمورًا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أسلمت على ما أسلفت من خير ” وفي رواية قلت : فوالله لا أدع شيئًا صنعته في الجاهلية إلا فعلت في الإسلام مثله .

قال الإمام النووي : الحديث على ظاهره إذا أسلم الكافر ومات في الإسلام يثاب على ما فعله من الخير .

فالإسلام لا يقطع قيم الخير ولكن الإسلام يضعها في القصد التوحيدي ، أما حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه : ” فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : أبسط يمينك فلأبايعنك فبسط يمينه ، قال : فقبضت يدي ، قال : ” مالك يا عمرو ؟ ” قلت : أردت أن أشترط ، قال : ” تشترط بماذا ؟ ” قلت : أن يغفر لي ، قال : ” أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها .. ) .

وعمرو بن العاص رضي الله عنه كان يسأل أن تغفر له الآثام التي ارتكبها في الجاهلية ، وأما حكيم بن حزام فكان يسأل عن أعمال الخير التي فعلها في الجاهلية وقد أوضح لهما الرسول صلى الله عليه وسلم أن الدخول في الإسلام لا يجبُّ الشر والخير معًا ، وإنما يستصحب الخير والحق قيمًا وعلاقات ويثيب عليه ويبطل الباطل .

وهناك أشياء كانت عند العرب قبل الإسلام وقد أبقاها الإسلام مثل ( القسامة[4] ) وكانت الدية زمن عبد المطلب مئة من الإبل وأبقاها النبي صلى الله عليه وسلم .

وكان عندهم بقية من سنن الفطرة التي أقرها الإسلام .

وعندما تقول السيدة خديجة رضي الله عنها للرسول صلى الله عليه وسلم ( فوالله لا يخزيك الله أبدًا ، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق ” فهذا يدل على أن هذه الصفات كانت موجودة عندهم .

وعندما أسرت ( سفانة ) بنت حاتم الطائي قال الرسول صلى الله عليه وسلم : دعوها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق وأبوها مات قبل الإسلام .

ثانيًا : هل يستطيع الإنسان أن ينسلخ تمامًا من ماضيه ويكون صفحة بيضاء ، وليس لثقافته السابقة أي تأثير ؟ فهذا صحابي جليل كأبي ذر الغفاري يقول لبلال رضي الله عنه : يا ابن السوداء فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر” إنك امرؤ فيك جاهلية ” أي فيك خصلة من خصال الجاهلية ، ومثال آخر : هذه الملاحاة التي وقعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأوس والخزرج وظهرت فيها الحمية القبلية كما في حديث عائشة رضي الله عنها وهي تروي قصة الإفك : ” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوعلى المنبر : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا ، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ، فقام سعد بن معاذ الأنصاري  فقال : أنا أعذرك يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، قالت : فقام سعد بن عبادة وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فتثاور الحيّان حتى هموا أن يقتتلوا ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخفضهم حتى سكتوا ” ( صحيح البخاري ، كتاب التفسير ) .

ثالثًا  : لقد شاءت الإرادة الربانية اختيار هذا الجيل من العرب ليكونوا أصحاب نبيه عليه الصلاة والسلام ، كما قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ” إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه ، فبعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه .. ” .

إنه جيل أقرب للفطرة ورغم وقوعهم في الوثنية إلا أنهم يحملون تراثًا أخلاقيًا نادر المثال وهذه الفضائل البارزة عندهم أحياها الإسلام وحَوّر الأهداف ليربطها بمقاصد التوحيد ، فالشجاعة الموجودة عندهم ـ وهي خلق عظيم ـ زودها القرآن بوجهة محددة ، ولم تفقد بالإسلام ذرة من طاقتها الأصلية ، صارت شجاعة سامية مهذبة ، والحمية والأنفة كانت إلى درجة الغلو فعدلها الإسلام وجعلها الغضب لدين الله ، وكذلك الكرم وغيره من الفضائل ، فكل بقية من خير كان عليه الجاهلون ستجد تمامها في الإسلام .

لقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم حوله أُناسًا يحملون كل صفات الرجولة والمروءة والصدق .

كيف نعلل إسراع أبي بكر رضي الله عنه إلى الإيمان من أول يوم ، لم يتردد ولم يتلعثم ، هل هو ايمان العاطفة فقط أم هو إيمان الذكاء والفطنة والعقل الكبير أيضًا ؟ لا شك أنه كان يفكر في أحوال مكة ووثنية مكة ، والمعروف عنه أنه لم يشرب الخمر في الجاهلية لا هو ولا عثمان رضي الله عنهما ، ثم كيف نعلل إسلام كبار الصحابة على يد أبي بكر : عثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وسعد أليس لأن أصداء القرآن تجاوبت مع شيء مدفون في أعماقهم ، أليس لأنهم وجدوا أنفسهم في هذا الدين ؟

أسلم خالد بن الوليد في السنة السابعة من الهجرة ، وفي السنة الثامنة قاد معركة مؤتة بعد استشهاد القادة الثلاثة وأنقذ المسلمين من مأزق كبير ، إنه عسكري قائد بفطرته ، فهل يترك خبرته العسكرية التي كانت في الجاهلية .

وقبيلته : بنو مخزوم كان اختصاصهم في قريش ( اللواء ) أي الاهتمام بالجانب العسكري ، وشخصية مثل عمر بن الخطاب من بني عدي وكان اختصاصهم في قريش القضاء والفصل في الخصومات ، ومنذ أسلم أعز الله به الإسلام كما في رواية البخاري عن عبد الله بن مسعود .

قال صلى الله عليه وسلم ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) .

وجد العرب في هذا الدين البساطة والوضوح الذي هو من طبيعة حياتهم وما يعرفونه من نفوسهم . شخصيات كبيرة أسلمت وهي قيادية في الجاهلية وهي قيادية في الإسلام .

لماذا يؤكد سيد رحمه الله على مقولته : إن الصحابي عندما يدخل في الإسلام بعد أن كان في جاهلية يتخلص من كل ماضيه ، يبدأ عهدًا جديدًا منفصلًا كل الإنفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية ؟ يؤكد ذلك لأنه ينسجم مع أطروحته التي قارن فيها بين الحركة الإسلامية اليوم وما وقع في السيرة النبوية في بداية الدعوة ، ووجه الشبه : هناك في بداية الدعوة مجتمع جاهلي يخرج منه أفراد يتربون بالقرآن والسنة ثم يتكون مجتمع إسلامي يمهد لبناء دولة .

وكذلك اليوم : المجتمع مجتمع جاهلي ( كما يراه وكأنه لا فرق بينه وبين المجتمع الجاهلي قبل البعثة ) نستخرج منه أفراد ينفصلون نهائيًا عن هذا المجتمع ويؤسسون المجتمع الإسلامي ” المهمة هي نفسها : بناء العقيدة على مهل ولفترة طويلة حتى تتشربها العقول والقلوب ثم المجتمع المسلم الذي يتولى في مرحلة لاحقة بناء الدولة[5] ” وحسب أطروحته هذه يرى إمكانية إخراج جيل كجيل الصحابة ، جيل يتحمل المسؤولية عن إقامة هذا الدين ، بل يتحمل مسؤولية قيادة البشرية الضالة الشاردة الغارقة في الآثام ، بشرط أن يقتصر تلقي هذا الجيل من النبع الصافي وحده : القرآن الكريم والسنة النبوية ، وأن يكون هذا التلقي للتنفيذ العملي وليس للبحث والدراسة والمتاع العقلي ، وأن يعتزل هذا الجيل الجاهلية المحيطة به وسماها ( العزلة الشعورية ) .

يقول مستدلًا أنه يمكن إخراج جيل كجيل الصحابة . ” إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه العملي بين أيدينا كما كانت بين أيدي ذلك الجيل الأول الذي لم يتكرر في التاريخ ، ولم يغب إلا شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهل هذا هو السر ؟ ( أي لماذا لم يتكرر في التاريخ ) لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حتميًا لقيام هذه الدعوة وإيتائها ثمراتها ما جعلها الله دعوة للناس كافة ، وما جعلها آخر رسالة ، ولكن الله سبحانه تكفل بحفظ الذكر وعلم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذن فإن غيبة شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفسر تلك الظاهرة[6] ” .

يقول الدكتورجعفر شيخ إدريس معقّبًا على كلام سيد :” إن مقدمات هذه الحجة لا تؤدي إلى نتيجتها ، فعدم وجود الرسول صلى الله عليه وسلم لاستمرار الدعوة هذا صحيح ولكن النتيجة التي انتهى اليها الكاتب الفاضل ( وإذن فإن غيبة شخص الرسول صلى الله عليه وسلم لا تفسر تلك الظاهرة ) غير صحيحة ، لأن عدم وجود الرسول صلى الله عليه وسلم لاستمرار الدعوة لا يعني عدم ضرورته لوجود جيل كجيل الصحابة ، فالأمران مختلفان ، وهناك نصوص تدل على أن وجود شخص الرسول صلى الله عليه وسلم كان ضروريًا لتخريج ذلك الجيل ، ففي حديث حنظلة الأسدي قال : قلت : نافق حنظلة يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما ذاك ؟ قلت : يا رسول الله نكون عندك ، تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا نراها رأي عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ” ثلاث مرات .

وهذا الذي شعر به حنظلة وأيده أبو بكر رضي الله عنهما شعور طبيعي ، فإن الواحد منا يعرف من تجربته أنه يقرأ كلامًا فلا يتأثر به ، فإذا سمعه من إنسان تأثر به ، فكيف بمؤمن صادق يسمع القرآن والحكمة من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرف الحوادث والمناسبات التي نزلت فيها كثير من آيات الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويرى هذا الرسول ويخالطه ويصحبه ويفهم عنه من غير ترجمان ولا حاجة إلى شروح وتفاسير ، أفيكون حاله كحال إنسان يقرأ القرآن والسنة من الكتب ، الفرق كبير بين جيل شاهد رسول الله صلى الله عليه  وسلم وتربى على يديه ، وجيل لم يره ولا رأى من رآه[7] ” .

وهناك فرق بين رجل الفطرة ( العربي قبل البعثة النبوية ) الذي لم يخضع للطغيان ولم يفسد بأسه ولا انتُقص من استقلال شخصيته ، ولم تفسده المدنيات بمظاهرها الشكلية وفلسفاتها الجدلية .

فإذا جاء الإسلام بالتوحيد الخالص والشرائع والآداب صاغ هذه الشخصية التي دخلت دورة الحضارة الإسلامية فكانت نور على نور . هناك فرق بين هذه الشخصية وبين الإنسان الذي عاش ويعيش في فترة ضعف هذه الحضارة ، هنا قد يكون الفرد ذكيًا ولكن الأخلاق أصابها نوع من العطب ، وقد يكون المسلم نقيًا لا ينقصه الإخلاص ولكنه لا يستطيع مجابهة مشاكله وكيفية حلها ، لقد تعلم وأخذ الشهادات ولكنه لم  يتثقف كي يكون فعالًا[8] .

الخيرية موجودة عند المسلم لم تنقطع ولكن هناك عوامل كثيرة من البيئة التي حوله لها تأثير عليه وهناك متغيرات لها تأثير أيضًا ، فالواجب أن نتدرج بهذه الشخصية إلى الغايات العليا التي نسعى إليها وليس أن نضع صورة مثالية مطلقة ثم لا تتحقق أو تتحقق عند أفراد قلائل ثم يعقب ذلك الانكماش والتجمع الهامشي.

سؤال : قد يستغرب البعض ويتساءل : لماذا نطرح هذا الموضوع الآن ؟ وما الفائدة منه ، والناس قد قرأوا لسيد واستفادوا منه ؟

وأقول : نعم سيد قطب مفكر كبير وصاحب مدرسة أدبية ، والدعوة الإسلامية بحاجة إلى المراجعات بين كل فترة وأخرى ، وهذا من النصيحة وهذا من العدل والإنصاف ،وهذه بعض الأسباب للكتابة حول بعض فصول ( معالم في الطريق)

1 ـ من سنن الله سبحانه أن الأمر العظيم يسبقه تمهيدات ومقدمات ، وقد اختار الله سبحانه لنبيه هذا الجيل من البشر الذي يملك الاستعداد لحمل هذه الرسالة وبعض الكتاب يريدون مدح الإسلام وأنه انقذ العرب من الجهالة والضلالة ولكنه ـ مع هذه النية الحسنة ـ يجرد الشخصية العربية يومها من كل الفضائل ليثبت عظمة الإسلام في بناء الإنسان ولكن الذي لا يملك الاستعداد للأمر العظيم لا أظن أنه سينقلب بين ليلة وضحاها من شخصية ضحلة إلى شخصية رائدة ، ولنتصور أنه لو كان حول محمد صلى الله عليه وسلم أناس كبني اسرائيل الذين قالوا لنبيهم

 ( فاذهب انت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ) ( المائدة 24) لوكان حوله صلى الله عليه وسلم مثل هؤلاء هل سيقام للإسلام دولة ، وهل سينتشر الإسلام في الآفاق .  

2ـ إن دراسة الفترة السابقة للبعثة النبوية ضرورية لمعرفة واقع هذه المجتمعات وهذه القبائل التي ستكون هي أول من سيكلف بهذه الرسالة وحملها إلى العالم ، ومن الملفت للنظر أن ابن اسحاق عندما كتب السيرة قسمها إلى : المبتدأ والمبعث والمغازي ويقصد بالمبتدأ : ما قبل البعثة .

3 ـ أعطى سيد رحمه الله للشباب صورة مثالية وأنهم ـ حسب منهجه ـ هم المجتمع الإسلامي ولو كان عددهم قليلًا ، وهم الطليعة الذين سيقودون البشرية ، كانت تطبيقات بعضهم لهذا التصور وربما حسب ثقافتهم وقدرتهم ـ كانت كما شاهدناها ـ انعزالية استعلائية ، وربما يقال : لقد فهموا كلامه بطريقة خاطئة ، وقد يكون هذا ولكن سيدًا أتى بمفاهيم وعبارات قوية ولكنها مجملة حمّالة أوجه ، ولم يفسرها ولم يوضح معانيها بالتفصيل .

وعندما أراد سيد أن تكون التربية من النبع الصافي قبل أن تختلط الينابيع وتدخل حضارات القدماء وفلسفاتهم وأساطيرهم ولاهوتهم فهذا صحيح  ولكن الصحابة كانوا يتلقون القرآن والسنة مباشرة من الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا حصل أي إشكال كانوا يسألونه ولكن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم صار مع القرآن والسنة مابني عليهما مثل الإجماع  والقياس ثم الإجتهاد لأهل العلم في واقع الدعوة ومقاصد الشريعة  .

4 ـ عندما أصر سيد على هذه الحضانة الفكرية كما كانت في الفترة المكية ، فقد انتقد أي عمل مرحلي يكون خطوة على الطريق ، خطوة يكثر فيها الخير ويقل الشر ، واعتبر ذلك من العوائق لمسيرة الدعوة ، فالكتابة حول الاقتصاد في الإسلام مثلًا أو مزايا الشريعة في القضية الفلانية ، كل هذا لا داعي له ، فهذه المشاكل الموجودة لسنا نحن المسلمين سبب وجودها فلماذا نشغل أنفسنا بإيجاد الحلول لها ، عندما يقوم المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية فسوف يقبل المسلم كل النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأنها كلها من عند الله ، ولذلك فقول سيد رحمه الله ( خذوا الإسلام جملة أودعوه ) هي صحيحة من حيث الاعتقاد الجازم بأن هذه الشريعة هي الحق والاستسلام لهذا الدين ، أما في التطبيق العملي فهو متعلق بالاستطاعة وعدم وجود الموانع القاهرة فلا يقال ( خذوا الإسلام جملة أودعوه ) بل يستفاد من الزمن لقطع المراحل الضرورية .


[1] جعفر شيخ ادريس : نظرات في منهج العمل الإسلامي / 46 .

[2] معالم في الطريق / 19 ـ 20 ط  دار الشروق

[3]  التيجاني عبد القادر : أصول الفكر السياسي في القرآن المكي / 48 ـــ 50

[4] إذا وجد قتيل في قوم بينهم وبين قوم عداوة ـ بين قبيلتين مثلًا ـ فيحلف أولياء الدم خمسين يمينًا على رجل منهم فيستحقون دم صاحبهم قصاصًا أو دية أو يحلف المدعى عليهم خمسين يمينًا للبراءة .

[5] بلال التليدي : مراجعات الإسلاميين / 326 .

[6] المعالم / 14 ـ 15

[7] جعفر شيخ ادريس : نظرات في منهج العمل الإسلامي / 53

[8] محمد العبدة : مالك بن نبي مفكر اجتماعي ورائد إصلاحي / 57

بين التاريخ السياسي والحضاري للأمة

                                                                  د . محمد العبدة

الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد :

فإن المتابع لما يجري على الساحة الثقافية في هذه الأيام سوف يلاحظ أن هناك حملة مدروسة على التاريخ الإسلامي ، حملة لا تخطئها العين ، فيها ازدراء للماضي وتهجم على الدول الإسلامية التي جاءت بعد الراشدين ، وقد يلمزون الخلافة الراشدة أحيانًا ، وبطريقة توحي للقارئ أو المستمع أن هذا التاريخ كله استبداد وظلم وقتال وفرقة ، ويبثون هذا التشويش وهذه الصورة المظلمة تحت ستار : الموضوعية والحداثة والمعاصرة أو تحت ستار التحقيق وعدم تقديس الأشخاص ، وإذا كان بعض من يتكلم بهذا الشأن له أغراض سيئة ، فإن البعض يقوم بهذه الحملة من باب ( التظرف ) ليشعر الآخرين أنه من الطبقة المثقفة التي لا تقدس الماضي ، وأن كل شيء خاضع للنقد حتى الأمور المسلمة والمتفق عليها . ولو أن هؤلاء النقدة يبنون أمورهم على أساس من المعرفة الدؤوب والنقد السليم لكان الأمر سهلًا ويقبل الحوار والمناقشة ، ولكنه التطرف في النقد الذي يجري نحو الشهرة والظهور ، إنهم لا ينتقدون الظالمين الفاسدين ، بل هو نسف واغتيال للتاريخ كله ، والعجيب أن يتنبه مؤرخ غربي لهذه النظرة الخاطئة عند بعض الناس ، يقول : ” هناك نظريات خاطئة صورت التاريخ الإسلامي على

                                                                                            ( 1 )

 أنه سلسلة محكمة من الحكام الطغاة ”  والعجيب أيضًا أن أمم الغرب من أحرص الناس على إعادة تاريخهم وذكر أبطالهم والكبار من الأدباء والعلماء .

راجعت أوروبا تاريخها لتستفيد منه ، درست تاريخ الرومان واليونان ، لم تقطع هذه الأمم صلتها بالماضي بل جعلت الماضي مهمازًا لنهضتها ، ثم جددت وابتكرت وقامت بين جوانبها حركات إصلاحية .

وهناك أمم لا تجد لها تاريًخا فتتصيد لنفسها أسطورةً تحيا بها “ونحن نملك

                                                                                                                                                                                                 ( 2 )

تاريخًا حقيقيًا لو تقسمه أهل الأرض لكفاهم دافعًا نحو أهداف شريفة وقيم مثلى ” 

لا يخفى على عاقل أهمية التاريخ وأنه أكبر مُربّ للأمم كما يصفه البعض ، وأنه ” وإن كان في ظاهره أخبار عن الأيام والدول وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ زاهية قدورة : بحوث عربية وإسلامية / 43 والكلام للمؤرخ ( روزنثال ) .

2ـ زكي نجيب محمود : عربي بين ثقافتين / 22 .

 للكائنات ومباديها دقيق ” كما يصفه ابن خلدون ، ولا شك أن التاريخ هو إعادة مستمرة وإعادة تفسير ، وهذا يلقي الضوء على الطريق الذي نسير فيه ، وإن دراسة التاريخ تعين على مواجهة المواقف الجديدة .

التاريخ السياسي والتاريخ الحضاري :

ليس من الإنصاف وليس من العدل أن نقتصر في قراءة التاريخ على الجانب السياسي ، بل يجب أن يُقرأ من جميع جوانبه السياسي والحضاري ، لأن الاقتصار على قراءة السياسي يفقد هذا التاريخ جوهره ويعطل دوره ، وإذا كان التاريخ السياسي قد أصابه الضعف أو التدهور في بعض الفترات وبعض المناطق إلا أن هذا التاريخ فيه قمم وفيه عدل ورحمة وفيه ملوك صالحون ، وفيه أيضًا استبداد وأهواء ، أما التاريخ الحضاري فكله قمم ، كانت العلوم بشتى فروعها في تقدم ولم ترتبط بظاهرة الضعف السياسي ، وذلك لأن الأمة الإسلامية نشأت بالدين ، والدين يحث على طلب العلم ، وإن أكثر المدارس كانت بدعم من الأوقاف الخيرية وجهود الأفراد والجماعات وليست بجهود الدول ،وإذا كان التاريخ السياسي يسرد تعاقب الدول وأخبار المعارك فإن التاريخ الحضاري  يذكرالذين بنوا صرح الفقه الإسلامي والذين كشفوا أسرار الداء والدواء ، والذين نظموا العمل الاجتماعي من خلال مؤسسة الوقف .

وقد شبه أحد المؤرخين التاريخ بنهر ذو ضفتين ، فالنهر قد يكون فيه أحيانًا دماء وأشلاء ولكننا نجد على الضفتين العلماء الذين أفنوا أعمارهم في خدمة العلم وخدمة الناس ، هنا نجد الأطباء والأدباء ، وهنا نجد الجغرافيين والمؤرخين الذين يصلون الأمة بعضها ببعض في الزمان والمكان ، أفقيًا وعموديًا ، الجغرافي الذي يتنقل في البلدان طولًا وعرضًا ولعدة سنوات ليقدم لأمته تقريرًا عن أحوال المسلمين في مدنهم وقراهم ، لقد ربط المؤرخون ماضي الأمة بحاضرها عندما جاءوا بفكرة الطبقات وتراجم الرجال والنساء وهكذا سيجد المتأخرون المثل الأعلى للخلق الفاضل في حياة الأجيال الأولى من أمثال ابن سعد في طبقاته ، وهنا الشعوب التي صمدت وصابرت واستطاعت الفكاك من أسر الأعداء .

لا أريد الإطالة في الحديث عن هذا الجانب فالكل يعلم أسماء شخصيات كبيرة وعظيمة في علوم الدين وعلوم اللغة وفي الطب والهندسة والرياضيات وعلم النبات والفلك ، ومن يقرأ كتب التراجم سيجد العدد الكثير من العالمات في الفقه والحديث النبوي .

وفي هذا الجانب الحضاري كانت مؤسسة الوقف من أعظم المؤسسات نفعًا للأمة ومن آثارها المدارس والمشافي والمكتبات والمساجد وأمور أخرى كثيرة تتعلق بمساعدة الإنسان وفي هذه الحضارة بُنيت أكثر من ثلاثمائة مدينة أكثرها باق إلى اليوم ، والذي بدأ بهذا العمران هو الخليفة عمر رضي الله عنه .

التاريخ السياسي :

من الواضح أن الخلافة الراشدة قد انقطعت بتنازل الحسن بن علي رضي الله عنه وتحولت الدولة إلى ملكية وراثية ، ومعاوية رضي الله عنه يعرف ذلك ويقول : أنا أول الملوك .

وقد اعتبر ابن خلدون أن فترة بعض ملوك بني أمية وبني العباس هي من الملك الممتزج بالخلافة ، ويقول : ” وهم وإن كانوا ملوكًا لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي ” .

وجاء في الحديث عن جابر بن سمرة قال : انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أبي ، فسمعته يقول : ” لا يزال هذا الدين عزيزًا منيعًا إلى اثني عشر خليفة ” ثم تكلم بكلام خفي عليَّ فقلت لأبي ماذا قال ؟

                                                            ( 3 )

 قال : ” كلهم من قريش ” .

نعم لم يكن هناك شورى التي أرسى بدايتها الخليفة عمر رضي الله عنه ولم يكن

                                                                                                                         ( 4 )

 هناك مجلس مؤلف من عدد معين وشروط معينة .

أما استشارة أهل العلم والرأي فهذه لم تنقطع ، وقد كان في الأندلس مجلسًا لشورى العلماء وعددهم عشرة والفتوى لهم .

هذا الذي وقع ولكن هل هذه الدول استبدادية مثل دول اليوم الاستبدادية الظالمة المدمرة للمجتمع ؟ إن كلام المشنعين على التاريخ الإسلامي يعطي انطباعًا للناس أن حكام الأمس من بني أمية وبني العباس مثل حكام اليوم .

وهذه مغالطة كبيرة ، بل هي جهل بتفاصيل تاريخ المسلمين ، يقول الشيخ رشيد رضا : ” حكامنا لا يُذكرون مع ملوك بني أمية وأمرائهم ، حتى مع الحجاج الظالم ، فأولئك فتحوا الممالك وهؤلاء أضاعوها ، وأولئك حفظوا الشريعة

ـ مع تقصيرهم في الشورى ـ وهؤلاء أضاعوها وأولئك لا يظلمون إلا من

                                                                                              ( 5 )

 نازعهم هؤلاء يظلمون في كل شيء ” .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

3ـ صحيح مسلم : كتاب الإمارة / 1821

4ـ لا نبرر عدم وجود الشورى ، ولكن من قواعد التاريخ ألا نحاكم القدامى بمفاهيم عصرنا .

5ـ مجلة المنار م 9 / 426

هل هي دول استبدادية كما هي دول اليوم وفتوحات بني أمية هي الراسخة والباقية إلى اليوم بعد فتوحات الراشدين ، وقد تقبلت الشعوب هذه الفتوحات لأنها كانت للبناء الحضاري وليست للنهب والسلب والتدمير كما هي دول الغزو الامبراطوري . إن الدول الاستبدادية لا تختار أمراءها وموظفيها إلا من كان على شاكلتها ، بينما نجد أن أمراء بني أمية الفاتحين سواء في الغرب أو الشرق كانوا من أهل التقوى والعلم والكفاءة مثل : عقبة بن نافع وحسان  بن النعمان الغساني وزهير بن قيس الذي وصف بأنه من رؤساء العابدين وأشراف المجاهدين وكان عبد الملك بن مروان معجبًا به ، وجاء بعده موسى بن نصير الذي فتح الأندلس وفي المشرق مثل : قتيبة بن مسلم الباهلي والجراح بن عبد الله الحكمي ومحمد بن القاسم الثقفي ، هل الدول الاستبدادية كما هي دول اليوم تختار أمثال هؤلاء القادة الكبار الذين يعارضون الجالس في دمشق أحيانًا .

لم تكن هذه الدول مطلقة السلطة ، ذلك لأنها مقيدة بوجود الشريعة وحراس الشريعة من العلماء الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر ، ونتذكر هنا مواقف هؤلاء مثل موقف المنذر بن سعيد البلوطي مع عبد الرحمن الناصر في الأندلس، والإمام الزهري مع هشام ابن عبد الملك وسفيان الثوري مع محمد المهدي العباسي وجمهرة العلماء وقفت حياتها لخدمة الإسلام وكانت تكافح ضد الفساد والطغيان

 بعد أن أدخل السلطان العثماني عبد المجيد قوانين وضعية آتى بها من القانون الفرنسي ، كان هذا إضعافًا للعلماء ترتب عليه إلغاء القيود والضوابط التي كانت مفروضة على السلطان من قبل الشريعة الإسلامية ، أي أن هذا أدى إلى انفراد

                                                                                                                  ( 6 )

 السلطان بالحكم وصار أكثر انطلاقًا في سلطته .

وإن احتفاظ الفقه الإسلامي باستقلاله الكامل في مواجهة السلاطين والحكام كان أكبر مفخرة من مفاخر نظامنا السياسي والذين يتكلمون عن الاستبداد في الدولتين الأموية والعباسية لا يلاحظون ـ مهما قيل عن بعدهم عن مبدأ الشورى ـ إلا أنهم لم يقحموا نفوذهم في آراء الفقهاء ، وهؤلاء الفقهاء كانوا يفضلون أن يضربوا دون أن يخضعوا لرغبات الحكام ، ولم يكن الفقه وحده والفقهاء يتمتعون بهذه الاستقلالية بل كانت كذلك مؤسسات التعليم والقضاء ، والمساجد مفتوحة للعلم وللجميع . هذا الواقع السياسي وإن حقق أهدافًا مهمة من أهداف الخلافة ، وإن أصبح واقعًا لم يستطع حتى الملوك الصالحين تغييره والانفلات منه إلا أن علماء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

6ـ انظر : طارق البشري : نحو تيار سياسي للأمة / 54

 المسلمين كانوا على معرفة بأن الأصل هو الخلافة والشورى ، قال أبن حزم

                                                                                                                                                                                                    ( 7 )

 رحمه الله ” ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها ” وقال ابن تيمية رحمه الله : ” ما قال أهل السنة إن الواحد من هؤلاء كان هو الذي تجب توليته وطاعته في كل ما أمر به ، بل كذا وقع ، فيقولون : تولى هؤلاء

وكان لهم سلطان وقدرة فانتظم لهم الأمر ، وأقاموا مقاصد الإمامة من الجهاد

                                                                                                                                                                                      ( 8 )

 وإقامة الحج والجُمَع والأعياد وأمن السبل ولكن لا طاعة في معصية الله ” وفي المقارنة بين الخلافة والملك يسأل ابن تيمية : ” هل الملك جائز في الأصل والخلافة مستحبة ؟ أم ليس بجائز إلا لحاجة من نقص علم أو نقص قدرة ؟ فنحتج بأنه ليس بجائز في الأصل ، بل الواجب خلافة النبوة لقوله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي .. ) فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء ، وهذا دليل بيّن في الوجوب ، وهنا قولان متوسطان : أن يقال الخلافة واجبة وإنما يجوز الخروج عنها بقدر الحاجة ، أو أن يُقال يجوز قبول الملك بما ييسر فعل المقصود بالولاية ولا يعسره ، وبعضهم يوجب الخلافة ويذم من خرج عن ذلك مطلقًا كما هو حال الخوارج والمعتزلة وطوائف من المتسننة والمتزهدة ، وبعضهم يبيح الملك مطلقًا من غير تقييد بسنة الخلفاء كما هو فعل

                                             ( 9 )

 الظلمة والمُرجِئة ”  .

ولابن خلدون رأي يؤيد فيه القول الثاني من القولين المتوسطين : ” الملك لمّا ذمه الشارع لم يذم منه الغلب بالحق ومراعاة المصالح ولكن ذمه إذا كان فيه تَغلُبٌ بالباطل ” . وأما ولاية المتغلب التي يدندنون حولها كثيرة ، فإن العلماء قالوا :   ” إنها للضرورة وتقدر بقدرها بحسب المصلحة ويجب إزالتها عند الإمكان ،

                                                                                                                                                                 ( 10 )

 واشترطوا في طاعته إقامة الجهاد والجمعات وإنصاف المظلوم ”  .

لا نبرر أي ظلم أو طغيان أو تبذير الأموال ووضعها في غير حقها ولا ولاية المتغلب ، ولكن الأمة الإسلامية تعرضت لأخطار خارجية وداخلية لو تعرضت لها أمة أخرى لانماعت ولم يعد لها ذكر في التاريخ ، كيف نتوقع أن تدخل أمة مثل الفرس ولها ملك طويل عريض ولا يكون فيها حقد على الإسلام وأهله ممن لم يدخل الإيمان في قلبه ، وكيف نتوقع من الأمراء والكهنة الذين عاشوا قرونًا يستعبدون الناس ويُنظر إلى ملوكهم وكأنهم آلهة ، كيف يتفهمون بساطة الإسلام   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

7ـ الفصل في الملل والنحل 5 / 7

8ـ المنتقى من منهاج الاعتدال / 61 .

9 ـ الفتاوى الكبرى 35 / 24

10ـ رشيد رضا : تفسير المنار 12/ 180 وانظر العواصم والقواصم لمحمد بن ابراهيم الوزير .

وعدم تقديس الأشخاص وأن أس هذا الدين هو توحيد الله في الربوبية والعبودية ولذلك ألّهوا عليًا رضي الله عنه وذريته ، وهذا ضرب وتخريب للإسلام من الداخل .  

التاريخ السياسي والأمة

رغم التجزؤ السياسي وظهور الدول الصغيرة المنقطعة بعد القرن الثالث الهجري إلا أن الأمة بقيت موحدة ثقافيًا وسياسيًا فالعالِم يأتي من الشرق ليستقر في الغرب ويبث علومه بلا أي عوائق ، والمسلم ينتقل من بلد إلى بلد ويستقر فيها ولا يشعر بأنه غريب ، فلا حدود ( ولا جوازات وتأشيرات ) وليس هناك حواجز بسبب العرق أو اللون أو الأصل الطبقي ، ففي ظل هذه الحضارة وصل المماليك إلى أعلى درجات السلطة ، وقد حافظ الفرد المسلم ورغم التجزؤ السياسي على القيم الإسلامية وهذا مما ساعد في العصر الحديث على مقاومة الاستعمار والاحتلال الأجنبي .

مقارنة مع تاريخ الغرب :  

الذين ينظرون إلى تاريخنا السياسي ويشنعون عليه هؤلاء ينظرون إلى تاريخ الغرب مجملًا دون تفاصيل ، وينظرون إليه في زمنه القريب ، ويعجبون به كالذي ينظر إلى الجبل من بعيد فلا يرى إلا القمم ، يرى شخصيات سياسية وأدبية وعلمية ، ونحن ننظر إلى تاريخنا بتفاصيله فنرى فيه القمم والأخاديد والوديان ونمشي ونمشي في طرق متعرجة .

لا يعلم هؤلاء أن ألمانيا قبل مئة عام كانت مجزأة إلى (39) دولة ، ولا يعلمون عن حروب الثلاثين وحروب السبعين بين دول أوروبا ، ولا يعلمون عن الحرب الأهلية في أمريكا التي كلفتهم أكثر من مليون قتيل ، ولا يعلمون أن فيلسوف السياسة في القرن السابع عشر ( جون لوك ) كان يقول : ” للحاكم المدني سلطة مطلقة على كل أفعال الناس ، وعليهم أن يطيعوا القوانين التي يسنها الحاكم حتى لو كانت خاطئة ” وأن السياسي ( هوبز ) كان يقول : ” أفوض وأتخلى عن حقي لهذا الجمع من الأشخاص ( الدولة ) وأبيح لها جميع أفعالها ” وأن ملك بريطانيا ( جيمس الأول ) كان يقول : ” إن الله هو الذي اختار الملوك ، فهم المسؤولون أمامه فقط ، ولا حكم للقانون عليهم ، لأنهم فوقه وليس للرعية إلا أن تطيع ولو كان الملك شريرًا ” ولويس الرابع عشر ملك فرنسا كان يقول : الدولة أنا ، ولويس الخامس عشر كان يقول : في شخصي وحدي تستقر السلطة العليا ، فهل قال أحد من ملوك المسلمين أنه فوق الشريعة وأن الله سبحانه هو الذي اختاره ؟

كانت أول حركة إصلاح في بريطانيا عام ( 1832 ) م حيث نُقلت السلطة التي     كانت للأغنياء وملاكي الأراضي إلى الطبقة الوسطى ، ثم توسع حق الانتخاب ما بين ( 1867ـ 1918 ) وأصبح لكل البالغين رجالًا ونساء لهم الحق في

                   ( 11 )

الانتخابات  لقد تطورت الديمقراطية البريطانية على مدارقرنين ونصف من الديمقراطية النظرية إلى ديمقراطية كما هي واقعهم اليوم ولا شك أن هذا الذي وصلوا إليه هو تجربة ناجحة نسبيًا أي هذا أحسن ما وصلوا إليه في نظام الحكم بما أن ليس عندهم في النصرانية شيء يتعلق بنظم الحكم .

وكما قال رئيس وزراء بريطانيا ( تشرشل ) هذا أحسن الأسوأ . وهي تجربة بشرية بدأت بعد أقل من قرن تظهر عيوبها ونقائصها ، وبالتأكيد هناك ما هو أفضل منها وأحكم وأسلم لو فكر المسلمون بطريقة صحيحة .

ملوك صالحون :

هناك أسماء مشهورة في تاريخنا من أهل العلم أو الحكم ويتكرر ذكرها والكتابة عنها ، ولكن هناك أيضًا أسماء غير مشهورة ظهرت في أزمان مختلفة وأماكن مختلفة تمثل مبادئ الإسلام وشريعة الإسلام وحفظ كيان الأمة .                وهذا يدل على أن الأمة الإسلامية أمة غير منقطعة إذا ضعفت في جانب قويت في جانب آخر ، وفي أحلك الظروف يظهر هنا وهناك ملوك صالحون وعلماء ربانيون ، فالخط البياني للحضارة الإسلامية كثير القمم وقد يهوي في لحظات ضعف وعجز ، ولكنه يعاود الصعود من جديد .

ومن هؤلاء الملوك في الغرب الإسلامي : 

1ـ أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن أمير دولة الموحدين ، تولى الملك عام ( 580 ) هـ كانت مجالسه مزينة بحضور العلماء تفتتح بالتلاوة ثم بالحديث ، وكان يجيد حفظ القرآن ويحفظ الحديث ويتكلم في الفقه ويناظر ، بنى مستشفى غرس فيه جميع الأشجار ورتب له كل يوم (30) دينارًا للأدوية ، وكان يجمع الزكاة ويفرقها بنفسه ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وصنف كتابًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

11ـ في عام 1877 افتتح في العاصمة استانبول مجلس المبعوثان ( البرلمان ) العثماني وهو يضم كل الأعراق في الدولة وكل الطوائف . 

في العبادات وله فتاوى ، وفي عام ( 590) كتب له ملك قشتالة الأسباني (الأذفونش) يهدده ويطلب منه بعض البلاد فلما قرأ الكتاب غضب وكتب له ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ، وحشد جيشًا كبيرًا وتمت الملحمة

                                                                                                        ( 12 )

 الكبرى ونزل النصر وهي موقعة ( الأرك ) . 

2ـ محمد بن عبد الله بن محمد التجيبي الأندلسي صاحب ( بطليوس ) والثغر الشمالي الأندلسي ، كان رأسًا في العلم والأدب والشجاعة والرأي ، وكان مناغرًا للروم  ( الأسبان ) شجًى في حلوقهم ، له تأليف كبير في الآداب يكون عشر مجلدات ، كتب إلى المعتمد بن عباد ملك إشبيلية : أيها الملك إن الروم إذا لم تُغز غزت ، ولو تعاقدنا تعاقد الأولياء المخلصين فللنا حَدَّهم وأذللنا جَدَّهم .

وله تفسير للقرآن ، ومع استغراقه في الجهاد لا يترك العلم وإقامة العدل ، وكان

                                                                                                                                               ( 13)

 يبيت على أهبة الاستعداد في منظرة له ، ولا ينام إلا قليلًا .

وهذا مثال من الشرق الإسلامي ، من القارة الهندية :

3ـ السلطان خُرّم بن سليم الملقب بـ ( اورنك زيب ) من السلالة التيمورية (التركية المغولية) جده (جهان كير) هو الذي بنى (تاج محل) المشهور .

ولد خرّم بن سليم عام (1028)هـ (1619)م وكان عالمًا زاهدًا ، حارب البدع والخرافات ، وأبطل الاحتفالات الوثنية ، وألغى القوانين المناقضة للإسلام ، وقضى على الدويلات الرافضية في الهند ، ورفع المظالم عن الناس ، وألغى التقويم الإيراني ، ومن أعظم أعماله تكوين لجنة من العلماء لترتيب المسائل الفقهية بعبارة سهلة واضحة حتى يسهل الأمر على القضاة ويكفل تنفيذ القوانين

وقد تم هذا العمل الضخم في ستة مجلدات ويعرف بـ ( الفتاوى الهندية ) وهو على المذهب الحنفي ، ومن مشايخ هذا الملك الشيخ عبد اللطيف سلطان ، ومعصوم بن الشيخ أحمد السرهندي ، ومحمد هاشم الكيلاني ، وكان ملتزمًا بالسنة محافظًا على الصلوات .

ترجم له محمد خليل المرادي في كتابه ( سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر ) وقال عنه : ” سلطان الهند ، أمير المؤمنين ، والمجاهد في سبيل الله ، والملك القائم بنصرة الدين ، فتح الفتوحات العظيمة ” .  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

12ـ الذهبي : سير أعلام النبلاء 21 / 311 .

13ـ المصدر السابق 18/ 592 وانظر : الأعلام 6/228 .   

بلغت الدولة في عهده من القوة والاتساع والازدهار ما لم تكن قبله ولا بعده ، حكم خمسين عامًا ، كانت حدود دولته من آسام وأركان في بورما وأفغانستان إلى شواطئ المحيط الهندي في الجنوب ، توفي في 28 ذي القعدة /1118 هـ (1707) م رحمه الله .

إن قراءة التاريخ والرجوع إلى الماضي هو للفهم والمقارنة وإنصاف أهل الفضل والعلم والجهاد ، وليس للوقوف عند التمجيد فقط كما يتهم الناقدون ، والتاريخ من الأهمية بحيث أنه ( يجب أن يخلد في الصدور قبل السطور ، وأن يكتب على الحِدق قبل الورق ) كما يقول الأمير شكيب أرسلان .

إن حركة التاريخ ليست تقدمًا دائمًا كما ظن أو كما هوي بعض فلاسفة الغرب

ولكنها حركة صعود وهبوط واجتماع وتشتت ، وهداية وضلال قال تعالى :      ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) .   

هل هي مشكلة حضارية ؟

د. محمد العبدة

يعود السؤال دائماً : لماذا يتقن الآخرون أعمالهم ونحن لا نفعل ذلك ؟ لماذا يستفيدون من الوقت أكثر مما نستفيد ؟ لماذا ينتفعون من المال أكثر مما ننتفع ؟ إلى آخر الأسئلة الكثيرة التي تنمُّ عن القلق من واقعنا والبحث عن إجابات لهذه الأسئلة .

هل هي مشكلة حضارية ، وهل نحن من بقايا حضارة الإسلام كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي ، أي أننا بحاجة إلى إقلاع حضاري من جديد . إنّ تعريف الحضارة ربّما يساعد ويلقي نوعاً من الضوء على المشكلة ، هناك وجهات نظر مختلفة حول تعريف الحضارة ، فابن خلدون يراها ” التفنن في الترف واستجادة أحواله ، والكلف بالصنائع التي تؤنِّق من صنوفه ” أي أن التحضر عنده ينحصر في المتع الحسية والأشياء المادية ، وهذا بنظره مؤذن بنهاية الدولة ، ويفرق الرئيس علي عزت بيكوفتش بين الثقافة والحضارة ” فالثقافة هي الفن الذي يكون به الإنسان إنساناً ، والحضارة هي فن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء ، وهي استمرار للتقدم التقني لا الروحي ، وإنها تعبير عن الضرورة ، أما الثقافة فهي تعبير عن حرية الإنسان[1] ” .

ويرى الشيخ صبحي الصالح أنّ الحضارة هي تراث أُمة تراكم في الماضي ويتجدد ، ويزيده التتابع الحضاري نماء على نماء ، وهي أشمل من المدنية ، فكل مدنية حضارة ، وكل عمران حضارة . المدنية نظام دولة تتمثل في السياسة والاقتصاد والتقنية على حين تتمثل الحضارة

في الفنون والآداب والديانات والأخلاق ، المدنية هي ما نستعمل والحضارة هي ما نحن[2]

ويعرّفها آخرون ” بأنها جملة المنجزات البشرية التي تنتجها جماعة مدنية في حقول المعرفة

والعلم والإبداع وطريقة الحياة وفق نظرة شاملة إلى الكون[3] ” .

هذا مثال للاختلاف حول تعريفها ، وسأختار التعريف التالي : ” الحضارة ليست هي منتجاتها الثقافية والعلمية والصناعية بل هي السر الذي يعمل في ايجاد تلك المنتجات واستنباتها وإخراجها على الأرض ، هي سر الحبة التي تنبت الدوحة ، والذرة التي تقوم بها المادة ، هي

الروح التي يقوم عليها النظام والتدبير[4] ” . وهي البذرة التي تحدد خصائص حضارة وتميزها عن غيرها من الثقافات والحضارات[5] .

ما هي هذه الحبة التي تنبت الدَّوْحة ؟ إنها الفكرة التي تطبع مجتمع ما في دفعة يدخل بها التحضر ويدخل بها التاريخ ، فالحضارة الغربية لا تكمن قوتها في اقتصادها وأسلحتها فهذا هو المظهر الخارجي للأشياء ، وإنما تكمن في المنهج التجريبي في التفكير الذي ورثته عن (بيكون) وورثه بيكون عن الحضارة الإسلامية في الأندلس[6] . وفي الحضارة الإسلامية هي ( إقرأ ) التي بدأ بها التنزيل الإلاهي هذا التنزيل الذي كوّن الفرد تكويناً ايمانياَ يسري منه إلى كل ما انبثق عن تلك العقيدة من مظاهرعمرانية في البناء الفكري والسلوكي إلى نمط الأبعاد المادية في الحياة ونمط العلاقة مع الكون وما سخَّره الله سبحانه وتعالى للإنسان ، هذا التكون الديني الذي ينظم الطاقة الحيوية للأفراد ويصل بشبكة العلاقات الاجتماعية إلى قمتها ، وهذا البناء هو الذي يصلح به الإنسان ليقوم على عمارة الأرض التي هي من أغراض الخلق ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ( الملك / 2 )

 الحضارة الإسلامية التي آتت أكلها في كل أنواع العلوم بدأت بـ ( إقرأ ) وترسخت عقيدة وشريعة وأخلاقاً ، هو عصر جديد حيث طلب من الإنسان أن يفكر ويتدبر ، ” وإذا كانت كل الحضارات نشأت رويداً رويداً من تراث الماضي ، واستغرقت في تبلورها حتى وصلت إلى شكلها الخاص آماداً من الزمن فإنّ حضارة الإسلام وحدها ظهرت دون سابق عهد ، قامت في مجتمع واضح المعالم ، له نظامه التشريعي الكامل ، وله نظرته الخاصة إلى الحياة[7] ” وهي حضارة تتجدد لأن أساسها الدين كما قال شاعرنا إقبال :

أمة الإسلام تأبى الأجلا              أصلها الميثاق في قالوا : بلى[8]

لقد فقه عمر رضي الله عنه هذا الدين وما يريد من البشر في هذه الحياة الدنيا ، قام رضي الله عنه بإنجازات حضارية كبيرة ، وقد تعلم الدرس من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حوَّل يثرب التي كانت تجمع واحات على أسس قبلية إلى ( مدينة ) وبنى المسجد وهو مركزها ، وكان صلى الله عليه وسلم ينهى من يستقر في المدينة أن يعود إلى البداوة ، لأن الحضارة مرتبطة بالاستقرار والعلم ، ومن إنجازات عمر رضي الله عنه التي تنمُّ عن فقه عميق لغايات الإسلام أنه هو الذي أمر ببناء المدن وتخطيطها في العراق والشام ومصر أثناء الفتوحات ، وما تزال باقية إلى اليوم ، فهو أبو المدن كما يعبر المؤرخ شاكر مصطفى ، وقد حارب عمر كل مظاهر الترف في البناء حتى لا تنفق الأموال في غير محلها وهو الذي يهتم بالأمور الصحية للمسلمين ، وعندما رأى وجوه بعض الذين رجعوا من فتوح العراق لم يعجبه ذلك وأمر ببناء المدن بعيداً عن المستنقعات ، كما اهتم بالبنية التحتية كما يُقال اليوم فأمر بحفر قناة تصل نهر النيل بالبحر الأحمر ، وذلك لنقل البضائع من مصر إلى الحجاز ، وسميت هذه القناة بــ خليج أمير المؤمنين ، وهو رضي الله عنه يهتم بالوقت وتنظيمه ، ولذلك استشار الصحابة في وضع تأريخ لتنظيم أمور المسلمين في معاملاتهم وغيرها ، فكان الاتفاق على بداية التأريخ من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .

في مثل هذه الأجواء التي عاش فيها عمر رضي الله عنه تصبح طاقة الإنسان أضعافاً مضاعفة لأنه جو مفعم بالانطلاق نحو التشييد والبناء ، وفي مثل هذا الجو تذهب الأنانية والحسد ، وقد بنى المسلمون المسجد النبوي وهم في فرح غامر ، والرسول صلى الله عليه وسلم يشاركهم في هذا البناء ، ذلك لأنهم يشعرون أنهم يبنون دولة وأنهم أمة تحمل رسالة للعالمين .

حين يكون الإنسان في حالة حضارة فإنه يعشق العلم ويخاطر ويذهب برحلات طويلة في سبيل الحصول عليه ، ويستكشف ويبحث ويتأمل العالم ، وفي حضارتنا الإسلامية جاب علماء ومؤرخون وجغرافيون العالم الإسلامي كله ليفيدوا ويستفيدوا ويقدموا لنا صورة صادقة عن أحوال المسلمين ، لقد بذلوا حياتهم في سبيل أن يقدموا علماً نافعاً .

التحضر هو تطهير للإنسان من مظاهر الارتجال والفوضى .حتى تنتظم علاقاته ومعاملاته الحياتية ضمن أطر ونظم وشرائع ، وقد جعل الإسلام الكتابة أساساً في التعامل حتى لا يكون خلاف وكل يأخذ حقه ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمّى فاكتبوه ….) ( البقرة / 282).

واقعنا اليوم :

الحضارة تعني عمران الأرض بالغايات التي خلق الإنسان من أجلها ، وسخَّر الله له كل ما ينتفع به ويتقدم في حياته ، هذه الحضارة التي زهت في دمشق وبغداد وقرطبة هل المسلمون اليوم لهم سلطان كامل على الفكر والعلم وهل يملكون من أسباب القوة لتحقيق هذا الهدف ؟ وهل يستفيدون من الوقت والمال كما يجب ؟ أي بمعنى أشمل : هل نحن اليوم في مشكلة حضارية ؟

الوقت أو الزمن جزء مهم جداً لإنجاز حضاري ، ولكن الواقع أنه يضيع في بيروقراطية قاتلة يتلذذ فيها الموظف في الدوائر الرسمية بتأخير الإجراءات المطلوبة ، والمواعيد غير المنضبطة التي تنمُّ عن استهتار بالوقت وعدم إعطائه الأهمية . وتقول الإحصاءات أن معدل زمن العمل الحقيقي للموظف في العالم العربي ساعة في اليوم وهو يتعدى عشر ساعات في بلاد أخرى . المسلمون يقرأون القرآن وهو يدعوهم إلى التنبه لأهمية الوقت ، وقد أقسم الله سبحانه بأجزاء من اليوم : الليل ، الفجر ، الضحى ، العصر وإنّ عبادة عظيمة مثل الصلاة لها أوقات محددة يجب أن يتعلم المسلمون منها ضبط الوقت واحترامه ” والزمن نهر يعبر العالم ، يمر خلال المدن يغذي نشاطها ، وهو يتدفق على السواء في أرض كل شعب ، ولكنه في مجال ٍ ما يصير ثروة ، وفي مجال آخر يتحول عدماً ، ولكنه نهرٌ صامت حتى أننا ننساه أحياناً[9].

المال جزء آخر له أهميته وقيمته إذا وضع في موضعه الصحيح ، وحتى ينتفع به أكبر عدد من الناس ويتحول إلى مشاريع نهضوية ومؤسسات عامة ، وإلى حياة كريمة للناس ، ولكن في حالة التخلف تهدر الأموال في استهلاك الكماليات ، بل في الاستهلاك لمجرد الاستهلاك وتهدر الأموال في التطاول في البنيان والإسراف في امتلاك الأشياء التي لا ضرورة لها ، ويستولي حب المظاهر وعبادتها كما جاء في الحديث النبوي ( تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة …. ) وفي حالة التخلف تنفق الأموال على الفن الهابط ولا تنفق على البحث العلمي أو على العلماء وأصحاب الاختصاص ، ويتخذ الكرم مظهراً فردياً سعياً وراء الجاه والمدح وقضاء المصالح الخاصة ، ولا ينفق في الصالح العام .

في حالة ( الإقلاع الحضاري ) تذهب أخلاق الأثرة والكلف بالأشياء التافهة ، ويتعود الإنسان على العمل التعاوني وعلى التلاحم المجتمعي ، ولكن في حالة التخلف يصعب تكوين

(فريق عمل ) واحد ، ولا يلتقي الناس على صعيد واحد لبحث مشاكلهم وإيجاد الحلول لها ، وإنما يلجأ كل واحد لحل مشكلته بنفسه وعلى طريقته الخاصة سواء بطرق صحيحة أو بالتحايل والمخادعة والرشوة لأهل المناصب ، وهكذا نرى كل فرد يريد الوصول إلى مبتغاه ولا يهتم بالآخرين . وفي هذه الأجواء لا تكفي النية الحسنة ، ولا يكفي أن يمتلك الفرد ذاكرة تحفظ كل الكتب وهو مع هذا  لا يستطيع استخدام الوقت واستخدام الأشياء التي بين يديه ، هو لا يمتلك الفعالية ليكون منتجاً وإيجابياً .

في حالة التخلف يبدأ تقليد الآخر وفي أمور تفقد معها الأمة هويتها كما جاء في الحديث (لتتبعن سنن من كان قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه …. ) ويتحول الناس إلى هتافين للزعيم الدجال المخادع ، وتأسرهم الخطب الرنّانة والكلمة الخلّابة والشعر المدّاح ، وتتحول الأحزاب إلى أصنام عوضاً عن أن تكون مؤسسات تخدم المصلحة العامة ، ويصبح من غايات العلم الحصول على ( الشهادة ) التي يريد منها الشهرة والتعالي على الآخرين . ويصبح الاهتمام بالكم لا بالكيف ، فليس المهم مثلاً موضوع الكتاب الذي يقتنيه القارئ ويحرص على شرائه وعما إذا كان مفيداً أم لا ،  ولكن الاهتمام بعدد صفحاته وهكذا توزن الأمور بالعدد الكبير وإن كان غثاء .

هل تُستورد الحضارة

إذا كانت الحضارة هي التي تأتي بمنتجاتها فإن تكديس منتجات حضارة أخرى لا يعني أننا سلكنا الطريق الصحيح لبناء حضارة ، فالذي يشتري الآلات لا يعني أنه قد ملك التكنولوجيا ، بل لا بد أن نتبين المنهج العلمي والمناخ العلمي الذي كان وراء هذه التقنية ، نبحث عن الأساس الذي أوجد هذه الآلات والمكتشفات ، إن المخترعات المادية لا تعتبر بذاتها توجهاً حضارياً ، ولكن الحضارة هي الأصول التي قامت عليها هذه المخترعات ، فالنهضة الفكرية التي بدأت في أوروبا في العصر الحديث هي التي أتاحت الفرصة للبحث والتفكير والاستفادة من الوقت ومما سخره الله سبحانه للإنسان كما أن المناخ العلمي الذي أوجده القرآن الكريم وبه فتح آفاق العقول لتبحث وتتعلم ، هذا المناخ الذي ظهر فيه كبار العلماء والأطباء والمهندسين والمؤرخين ، وفي غياب المناخ العلمي والتكون العلمي لا تظهر آثار الحضارة ” لقد نقل تيمورلنك إلى عاصمته ( سمرقند ) كل المهرة من الصّناع وكل أهل الخبرة الذين عثر عليهم في البلدان التي احتلها ودمرها ، ولكن هؤلاء خيبوا ظنه ، فلم ينتجوا حضارة هناك ، ولم يبدعوا شيئاً ، وكل ما فعلوه هو أن جاءهم قدرالموت هناك[10] ” .

إنّ الاستيراد والتقليد السطحي هو الذي جعل بعض البلاد الصحراوية تجتاحها موجة ( الاسمنت ) في البناء مع أنه جاذب للسخونة ، فيزيد الأمر سوءاً ، ولم يفكر أهلها في استعمال المواد المناسبة للمناخ ، والغريب أن المقلِّد يتبع الآخرين في الأمور التافهة ولا يقلدهم في الأمور النافعة ، وإن الاعتماد على الاستيراد دون ايجاد المناخ العلمي هو كمن يقوم بصبغ بيته المتهدم بلون جديد ظاناً أنههكذا قد تحضر ، وهذا هو في الحقيقة مايفعله البعض مع الحضارة الغربية  ياستجلاب منتجاتها دون روية أوإدراك ، وهذا لايعني ن أن نبدأ من الصفر ، ولا يعني أن نستورد أحدث التقنيات لنستفيد منها ، ولكن هذه التقنيات الحديثة لا بد لها من علم يحوطها ومعرفة في كيفية الاستفادة منها .

إن كل حضارة لها روحها وقيمها ، والحضارة الإسلامية تتفوق على الحضارات الأخرى لأن أساسها القرآن الكريم أساسها رباني ، وكثير من الحضارات هي حضارات وثنية ، فهل نستورد الحضارة الغربية مثلاً وهي على ما قدمته للبشرية من علم ومخترعات ولكنها حضارة عاتية باغية استخدمت علومها ومخترعاتها للهيمنة على الشعوب الأخرى ، بل وإبادة بعضها . أم نستورد حضارة الصين الوثنية ، هذا ليس من طبائع الأشياء . فالإسلام هو الحضارة بعقيدته وشريعته وأخلاقه . لقد أهلك الله حضارات بادت مثل قوم عاد وثمود وقوم فرعون ، لأنها حضارات عصيان وفساد ، يقول شاعر الألمان ( جوته ) ” إنّ عصراً تسود فيه الآلية البحتة ، وتسيطر عليه الاتجاهات اللادينية لهو عصر تدهور وانحلال[11] ” .

فالعبرة بالحضارة التي هي أنفع للبشر ، والتي تيسر لهم سبل الأمن والاستقرار النفسي والاجتماعي وليس ذلك إلا للإسلام . ” فرغيف الخبز مثلاً أنفع للبشر من الوصول إلى القمر، والصاروخ الذي دفع مركبة القمرهوالصاروخ الذي يعبر القارات ويقضي على ألوف الناس[12]

إنه عندما يتم التطبيق الحقيقي للإسلام ، ويسير الإنسان حسب سنن الله سبحانه في هذه الحياة الدنيا ، في تلك اللحظة يبدأ المجتمع في التخلي عن تخلفه ويدخل في مجال ( حضارة ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] الإسلام بين الشرق الغرب / 108 .

[2] الإسلام ومستقبل الحضارة / 21 .

[3] فهمي جدعان : رياح العصر / 100

[4] محمود محمد شاكر : جمهرة المقالات 1 / 201 .

[5] مالك بن نبي : مشكلة الأفكار / 41 .

[6] وهذا مؤكد وقد اعترف الغربيون به أخيراً

[7] الإسلام والتحدي الحضاري ، منشورات دار الكاتب العربي ــ دون تاريخ ، وفيه مقال للمسلم النمساوي محمد أسد / 19 .

[8] أمة الإسلام لا تموت، وأشار في قوله أصلها الميثاق في قالوا بلى إلى قوله تعالى “وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا”

[9] مالك بن نبي : شروط النهضة / 139 .

[10] تراث الإنسانية م3 /848 .

[11] أحمد محمود صبحي : في فلسفة التاريخ / 256 .

[12] حسين مؤنس : الحضارة

المصطلحات وأثرها على الفكر الإسلامي

                                                                         د . محمد العبدة

لا شك أن الخطوة الأولى في مسيرة الفكر السليم هي العناية باللغة تحديداً وفهماً وسياقاً ،حتى يقوم البحث أو الحوار والتفاهم على أسس علمية واضحة جليّة ، وحتى لا تنقلب الأمور إلى أضدادها ويستغلها صاحب الهوى ” فإن ظلم الكلمات بتغيير

                                                                                                                             ( 1 )

 دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم ،  كلاهما منكروكلاهما قبيح ” ذلك لأن الألفاظ المبهمة الغامضة تربك الذهن وتشوش الفكر ، وأن من البلاغة أن تبين عن قصدك بالشكل الذي يجعل القارئ أو السامع يتفهم ما تريد .ولأهمية الكلمة ووضوحها  يقول الدكتور زكي نجيب محمود : ” قد تكون الكلمة واضحة حين تجري في سياقها ، لكنك اذا عزلتها وحدها ووضعتها في مخبار التحليل ألفيتها تقاوم وتراوغ ، فكأنما اللفظة من هذه الألفاظ كائنٌ حي بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة ، تنصاع لفهمك إذا

                                                                                                          ( 2)

 جعلتها جزءاً من عبارة ، وكأنها وسيلة تتعاون مع غيرها على أداء معنى ” .

أدان القرآن الكريم محاولات أناس يلجأون إلى الخداع اللفظي أو تعمد الغموض واللبس ليتسنى لهؤلاء تفسير اللفظة حسب أهوائهم وحسب الأوجه التي تناسبهم ، قال تعالى مخاطباً بني اسرائيل وأن من صفاتهم هذا الخداع والخلط ، ( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) البقرة / 42 وقال عنهم ( ومن الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ) النساء / 46 وقد أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين أن لا يستعملوا كلمات فيها خلط وفيها باطل مثل كلمة ( راعنا ) وأن يقولوا عوضاً عنها ( انظرنا ) ذلك لأن اليهود كانوا يستعملون كلمة راعنا بطريقة ملتوية خبيثة ، يقصدون بها قصداً سيئاً في مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ) البقرة / 104 .

نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين ، ليكون ذلك حماية من التحريفات أو أو التأويلات الباطلة ، فقدرة اللغة العربية على تحديد المعاني بطريقة واضحة جازمة قدرة فائقة ( إنا جعلناه قرآناً لعلكم تعقلون ) الزخرف / 3 قال الشيخ ابن عاشور : ” لأن أهل تلك اللغة أفهم لدقائقها ، واصطفى رسوله من أهل تلك اللغة

                                                                                                ( 3 )

 لتتظاهر وسائل الدلالة والفهم ، فيكونوا المبلغين مراد الله إلى الأمم ” وقال تعالى على لسان عيسى عليه السلام ( ولمّا جاء عيسى بالبينات قال : قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون ) الزخرف / 67  ” والتبيين

                                                                                                 (4 )

 هو تجلية المعاني الخفية لغموض أو سوء تأويل ” وقد وصف القرآن الكريم أشرف خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم بالعبودية ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) وذلك حتى لا يكون هناك أي التباس أو أوهام من بنوّة أو أبوّة كما وقع للنصارى في عيسى عليه السلام .

ومن الملاحظ أن كثيراً من التفرق والتحزّب الذي وقع في الأمه هو ناشئ عن سوء التعامل مع الألفاظ والمصطلحات ، ولهذا منع العلماء من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة ، فعندما شاع مذهب ( الجبرية ) أنكر العلماء هذا المصطلح وقالوا : لا يجبر الإنسان على شيء ثم يُحاسب عليه ، ولكن قد ( يُجبل ) على خلق معين كما في حديث وفد عبد القيس حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم لرئيس الوفد ” فيك خصلتان يحبهما الله ) فقال له : هل جُبلت عليهما ؟ قال ” نعم ” ولأنه قد تطلق الألفاظ وهي تحمل حقاً وباطلاً ، فإذا نُفيت فهذا يعني نفي ما فيها من الحق وإذا أُثبتت فهذا إثبات ما فيها من الباطل ، ولذلك لا بد من تحريرها ، ما المقصود منها ، وماذا تعني ، ذلك لأن لكل أمة أوضاع ومصطلحات في لغتها ، ولمّا كانت اللغة اليونانية ( قديماً ) أو اللغة الانكليزية اليوم مختلفة عن اللغة العربية وجب ترجمة معاني مفرداتهم لمعرفة ماذا يقصدون بهذه المفردة في ثقافتهم ؟ وكيف نشأت ولماذا ؟ ” فإنه عندما يفهم المرء المعنى الدقيق لكلمةٍ ما ، فإنه يفهم في غالب الأحيان

                                                                                                 ( 5   )

 كذلك الإشكالات التي تكون لها علاقة بهذه الكلمة ” يقول الدكتور زكي نجيب محمود : ” قل أي جملة شئت ، مهما بلغت بساطة مضمونها ، ثم انقل هذا المضمون الى لغة أخرى تجدك قد اضطررت إلى نقص هنا وزيادة هناك مما

                                                             ( 6 )

تقتضيه ثقافة تلك اللغة الأخرى ”   .

وإذا كان العلماء والمفسرون قد كفونا مؤونة شرح وتحديد بعض المصطلحات المهمة القرآنية مثل : الجاهلية ، الأمة ، الحكم ، الهجرة ، الجهاد ، فإن عصر الترجمة في العصر العباسي الأول أدخل عبارات ومصطلحات هي نتاج ثقافة أخرى ولغة أخرى ، ومن الأمثلة البارزة في ذلك : أنّ لفظ ( العقل ) عند اليونانيين القدماء والذين تُرجمت كتبهم هو مغاير لمعناه في القرآن الكريم فإنهم يعنون بالعقل جوهراً قائماً بنفسه ، ولكنه في المصطلح القرآني هو إجراء ذهني يساعد على السيطرة والضبط والتحديد وهو عملية رُشد  وتمييز بين الهدى والضلال ، ولذلك ورد في ذكره في القرآن بصيغة الفعل ( تعقلون ) أي الممارسة لعملية تفكير ومقارنة ، والعقل عند بعض الفلاسفة اليونانيين ، وحسب نظرية ( الفيض ) عند أفلوطين ( وليس أفلاطون ) تعني التدرج من المصدر الأول ( الإلاهي ) نزولاً إلى العقل الإنساني وهي عشرة عقول ، ولها تعلق بالأجرام السماوية ، وهذه  النظرية أخذها ( الفارابي ) عن أفلوطين ، وهو تصور محض خرافة وجهل بالله ومخلوقات الله ، وإن نبوغ اليونانيين في الرياضيات أو الطب أو علم الفلك لا يعني أنهم  كذلك

                        ( 7 )  

في الإلاهيات  .

بل هم أجهل الناس بالإلاهيات التي يجب أن تتلقى عن الأنبياء ، والحقيقة أن الفلسفة التي تسمى ( إسلامية ) استجلبت نظاماً كاملاً من المفاهيم الأجنبية لا شأن لها أصلاً باللغة العربية أو برؤية الإسلام  للعالم ، ولما أراد هؤلاء الفلاسفة التوفيق بين الدين والفلسفة وإيجاد مصطلحات مناسبة ـ مع أن المفاهيم أجنبية ـ حدث التناقض والتشوش ، لأنه من الصعب  إيجاد مقابل تام في اللغة العربية لمصطلح يوناني ، وقد اشتكى الخطيب الروماني الشهير ( شيشرون ) من صعوبة التعبير باللاتينية عن المفاهيم الإغريقية .

ومن الآثار السلبية لنقل المصطلحات دون تتبع مصدرها  وسبب نشأتها ، ما وقع

                                                                                             ( 8 )

 للمسلمين حين خاضوا فيما سُمّي ( علم الكلام )  وبدأوا في البحث حول ( الذات ) الإلاهية والصفات ، فإنهم تمثلّوا الطريقة الإغريقية التي تفسر الوجود كله في إطار ( الجواهر والأعراض ) وهذا يعني أنّ العالم تعتريه حالات : من وجود وعدم ، وسكون بعد حركة ، وظلمة ونور وتحول من حال إلى حال ، وهذه أعراض حلَّت بجواهر هذا العالم ، والأعراض حادثة ، وما حلَّت به الأعراض فهو حادث مثلها ، إذن الكون حادث ولا بد من له من مُحدث ، وهو الخالق سبحانه وتعالى ، ولكن هذه الطريقة لإثبات وجود الخالق ، ألجأتهم إلى نفي صفات الله سبحانه وتعالى ، لأن الأعراض صفات وهي تعرض وتزول ولكن صفات الله باقية ، وبعضهم نفى بعض الصفات دون بعض وهكذا تورطوا في مسألة خطيرة لأنهم لم يتبعوا منهج الرسل كما قال ابن تيمية رحمه الله .

والمنهج القرآني يقول لهم : إنّ وجود الله سبحانه مركوز في الفطرة ، فلماذا كل هذا التعب ( قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض ) إنها دعوة للتأمل في الخلق ، في الآفاق والأنفس وليس البحث في ( الذات ) .

فإذا انتقلنا إلى العصر الحديث فسوف نجد أنّ المشكلة تتكرر وربما بشكل أوسع ودون أن ننتبه إلى ما تلقي الكلمة المستوردة من ظلال ، وما هي المفاهيم الكامنة وراءها ، وأنّ لها معان عند القوم غير موجودة في ثقافتنا ثم زدنا على ذلك فقمنا بترجمة المصطلحات ترجمة حرفية فمصطلح ( الأصولية ) الذي شاع أخيراً في الصحافة والإعلام وعند بعض الكتّاب والذي هو ترجمة حرفية لكلمة

Fundamentalism ، التي تشير في المعجم الغربي بالدرجة الأولى إلى التفسيرات ( الحرفية ) البروتستانتية للعهد القديم والعهد الجديد ، فالأصولية والحرفية مترادفتان . أما في السياق العربي الإسلامي فالأمر مختلف جداً ، فالحرفية تعني عدم إعمال العقل أو الاجتهاد ، وهذا النمط غير معروف في الفكر الإسلامي ويقال في التراث الإسلامي ( أصولي ) ويعنون بذلك المتمكن من علو أصول الفقه ، فالأصول عندنا هو إطار لعملية اجتهاد مستمر .

إنّ مصطلح ( Religion    )  أي الدين عند أهل الغرب يعني : التوجه الروحي للأفراد ، أي أن الدين لا يتدخل في حياة الإنسان الدنيوية : السياسية والاقتصادية والحياة الاجتماعية ويقال : أن هذا المصطلح مأخوذ من كلمة Relation التي تعني العلاقة والدين عند المسلمين هو شامل لكل شؤون الحياة ، وقد عَرَّفه العلماء بأنه ” وضع الهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير باطناً وظاهراً ” فالمراد من الدين هو حفظ نظام العالم وصلاح أحوال أهله ( من عمِل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) .

ولذلك أطلق الغربيون ـ عن عمد أو عن جهل ـ مصطلح ( الإسلام السياسي ) وتلقفه المقلدون عندنا ، وهو مصطلح غير صحيح ، لأن معناه أن هناك إسلاماً غير سياسي ( الذين جعلوا القرآن عضين ) .

إنّ كلمة ( Faith ) الانكليزية ، تترجم بمعنى الإيمان ، ولكن لا يلاحظ الفرق الكبير بين مصطلح الإيمان القرآني وهذه الكلمة في الثقافة الغربية التي تعني عندهم الاعتقاد بمسائل قد لا يكونون مقتنعين بها أو تقف حجر عثرة أمام العقل ، والايمان بالمصطلح الإسلامي يشمل اعتقادات القلب وعمل الجوارح ، وهو اليقين دون شك أو رَيْب .

كما تُترجم كلمة ( nation ) بمعنى ( الأمة ) ولكنها عند أصحابها تعني شعباً ضمن حدود جغرافية أي هي قومية معينة ، والأمة بالمصطلح الإسلامي قائمة على رباط عقدي ـ سياسي ، لا تزال تجمع المسلمين دون حواجز اللغة أو العرق أو اللون . ونستخدم مصطلح ( التقدم ) دون أن نحدد مضمونه ، هل هو إقامة العدل وتحقيق إنسانية الإنسان ، أم هو الانتاج المادي والاستهلاك والرفاهية ؟ إن الغربي ينظر إلى الوراء ، إلى القرون الوسطى وكيف كانت أوروبا ، ثم ينظر إلى ما هو عليه الآن ، من بداية النهضة ثم التقدم العلمي والصناعي فإذا سمع مصطلحاً يوحي بالرجوع إلى العصور السابقة ، فإن هذا يفزعه ولذلك كان مصطلح ( التقدم ) له سحر خاص لديه . ولكن هذا لا ينطبق على كل شعوب الأرض ، وإنه  من غير المقبول أن يفرضوا تاريخهم على سائر البشرية ، كما فعل ( ماركس ) حيث رأى أن المجتمعات البشرية تطورت من شيوعية بدائية إلى عبودية وإقطاع ثم الرأسمالية ثم الاشتراكية العلمية ( الشيوعية ) وهي نهاية المطاف ، وهي الأمل والمثل الأعلى وإن كان هذا التطور ينطبق على أوروبا مثلاً ، فلا ينطبق على المجتمعات الأخرى أو على تاريخ البشرية .

يتقن الغرب تحريف الكلمات وإعطائها مدلولاً يناسبه كما ذكر القرآن عن بني اسرائيل ، فالغرب يسمي استعمار الشعوب الأخرى ، ( عصر الاكتشافات ) وكأنه اكتشف قارة ليس بها أحد ( أرض بلا شعب ) ذلك لأنه يرى أنّ هذه الشعوب المستَعمرة لا تستحق الحياة . وهو يسمي المنطقة العربية الإسلامية : ( الشرق الأوسط ) وذلك لإبعادها عن هويتها ، فهي بنظرة جزء جغرافي من الشرق ، فهناك أدنى وشرق أوسط وشرق أقصى .

فإذا أتينا الى المصطلحات التي يدور حولها الحديث اليوم : الدولة المدنية ، المواطَنة ، الديمقراطية ….. الخ  فالأصل أن نعود إلى أصل المصطلح وأين نشأ وما هو مفهومه عند من أنشأه ، فمصطلح ( الدولة المدنية ) مثلاً ، نشأ من خلال صراع أوروبا مع الكنيسة وتسلطها وحين كان ملوك أوروبا يحكمون باسم الإله ، وهو ما يُسمى بالنظام الثيوقراطي أو الدولة الدينية ، فالدولة المدنية باصطلاحهم هي مقابل الدولة الدينية ، وليس عندنا في الإسلام شيء اسمه دولة دينية ، ولكن عندنا دولة تحكمها الشريعة الإسلامية ونظم منبثقة عن هذه الشريعة ، ولا يحكمها طبقة اسمها ( رجال الدين ) ففي الأصل ليس في الإسلام طبقة اسمها ( رجال الدين ) ومفهوم ( الثيوقراطية ) بعيد جداً عن شكل النظام الإسلامي الذي له أسسه ونظرته الخاصة في السياسة والاقتصاد والاجتماع فكيف نأتي بمصطلح نشأ في أوروبا نتيجة صراع الكنيسة مع رجال الحكم فالدولة المدنية تعني ( الدولة العلمانية ) حيث يُشرّع الإنسان ويضع القوانين التي تنظم حياته ، ومصدر السلطة هو الشعب وله حق التشريع ، ولأن الشعب أعرف بأمور دنياه كما ورد في برنامج بعض الأحزاب العربية ( الوسطية ) ويقتصر الدين على ممارسة الشعائر التعبدية .

والذين يقولون : نقصد بالدولة المدنية أنها ليست دولة عسكرية ، فهذه مغالطة للخداع ، فإن الغرب عندما أطلق هذا المصطلح لم يكن تحت حكم عسكري ، ويريد إزاحته بدولة مدنية . والذين يقولون : لا مشاحة في الاصطلاح إذا اتفقنا على المضمون  الذي نريده لشكل الحكم يقال لهم : لماذا لا نبتعد عن المصطلحات الغامضة التي لها جذور علمانية ، ويكون لنا مصطلحاتنا البريئة من هذه العيوب .

إن مصطلح ( المواطنة ) هو انتساب جغرافي ،فهل يتعارض مع ( الهوية ) والناس لا بد لهم من هوية هي نظام حياتهم وعلاقاتهم ، وإذا كانت هوية الأكثرية هي الغالبة ، وهي التي تدعم الاستقرار والأمن ، والمخالفون في الهوية لهم حقوقهم وواجباتهم ، وخاصة في الأشياء العامة المطلوبة من كل مواطن ، فإذا كان كذلك فهذا هو الشيء الطبيعي في الدول والحضارات ، وهو الذي يساعد على التفاهم والتعايش . وأما مصطلح ( الديمقراطية ) والذي قامت حوله المعارك الكلامية فهو ليس مصطلحاً وحسب بل هو نظام معين سواء من حيث الشكل أو المضمون ، وقد تدرج وتأصل في الغرب في العصر الحديث ، وله آلياته وثقافته ، وهو حكم الأكثرية من خلال الانتخابات ، ولو كانت أكثرية ضئيلة ، وقد تقدم الغرب سياسياً بسبب هذا النظام رغم عيوبه ونقائصه التي يتكلم عنها كتّاب الغرب أنفسهم ، فهل نقول : إنه هو نظام الشورى عندنا ، أي نحرّف الكلمات ، فهناك خلاف أساسي بين الديمقراطية والشورى ( وليس هنا مجال التفصيل في هذا الموضوع ) فهذا له بحث طويل عريض فالنظام الإسلامي يختلف عن كل الأوضاع البشرية  الأخرى ، فلا هو ديمقراطي ولا ثيوقراطي ولا أوليرشي ( حكم الأقلية ) ولا منوقراطي ( قانوني حرفي ) فهل من المعقول أن ننقل نظاماً نشأ في الغرب وتطور ضمن بيئة معينة وثقافة معينة وأصبح ثقافة لعامة الشعب ، هل ننقل هذا لبيئة معينة وثقافة مختلفة وفي دينهم أساسيات للحكم والسياسة مختلفة ، هل ننقل مثل هذا النظام بعجره وبجره ، دون مراعاة للظروف وأسلوب الحياة ، وهذا لا يعني القبول بالنظم الاستبدادية كما لا يعني الانغلاق عن قبول أي شيء مفيد ، ومن أي جهة كانت ولكن يجب أن نعلم أن أسوأ السرقات هي سرقة الهويه أي القبول بسذاجة تعريف الآخرين لما يجب أن نسير عليه وفي المقابل فإن هناك مصطلحات اسلامية ليس لها مرادف في اللغات الأجنبية ولا يمكن أن تترجم حرفياً ، إذن سيضيع معناها ومغزاها ، فهل يترجم مصطلح ( العبودية ) أو ( عبداً لله ) بكلمة ( slave ) الانكليزية وهي تعني العبد المملوك ، أم نترجمها الى ( servant of gad ) وهي تعني الخادم لله ، ولكن ليس هذا معنى العبودية في المصطلح القرآني ، والتي تعني الخضوع مع المحبة ، ولذلك وصف أشرف الخلق بصفة العبودية ( سبحان الذي أسرى بعبده .. ) ومصطلح شرعي مثل ( الهجرة ) هل نترجمه الى الانكليزية بكلمة ( immigration ) ، التي تعني الانتقال من مكان الى مكان ، وهي بعيدة جداً عن مصطلح الهجرة التي تعني الانتقال من بلد الشرك الى بلد الاسلام أو من بلد يسمح للمسلم بإقامة شعائر دينه الى بلد يسمح بذلك .

وقل مثل ذلك في مصطلح ( الجهاد ) فليس هو كما يترجم بـ ( Holy war ) التي تعني الحرب المقدسة ، فالجهاد هو تحديداً يجب أن يكون في سبيل الله وهو مصطلح شرعي له مفهومه الخاص وآدابه وشروطه ، وعندما يترجم بـ ( الحرب المقدسة ) يفقد معناه وروحه وهكذا في ترجمة الهجرة أو العبودية فإن لم يترجم المصطلح حسب ما عُرف في لغته الأصلية وما تأسس له من معنى كمصطلح قرآني في منهجية الاسلام العقائدية ، فانه سيفقد ما وضع له ، ويعطي صورة مشوهة أو غير دقيقة للغير .

وقاعدة العلاج للخلل الغربي في نقل المصطلحات من لغة الى اخرى ” هي أن يُدرس المصطلح الغربي الذي يشير الى ظاهرة ما من خلال سياقه الاصلي دراسة جيدة ، نعرف مدلولاته معرفة جيدة ، ونحاول توليد مصطلح من داخل المعجم العربي بحيث لا يكون ترجمة حرفية ، وإنما تسمية للظاهرة من وجهة نظرنا ، وقد أدمنّا عملية نقل المصطلحات دون اعمال فكر أو اجتهاد ، ودون ادراك للمفاهيم

                                  (  9 )

 المتحيزة الكامنة ”  .

ان تقريب مصطلحاتنا الى المفاهيم الغربية يعقّد مشكلة النهضة والإصلاح التي نسعى اليها ، ويوقعنا في حالة الاستتباع والانبهار ، يقول الامام الشافعي رحمه الله ”  ما جهل الناس واختلفوا الا لتركهم لسان العرب وميلهم الى لسان أرسطاطاليس “

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـــ البشير الابراهيمي : الآثار الكاملة  3 / 18 .

12ـــ ثقافتنا في مواجهة العصر / 192

3ـــ التحرير والتنوير  10 / 161 .

4ـــ المصدر السابق ، تفسير سورة الزخرف .

5 ـــ أريك فروم : حب الحياة ، نصوص مختارة / 81 .

6 ـــ في حياتنا العقلية / 132 .

7 ـــ كمن يظن أن تقدم الغرب في العلوم المادية يجعله الحَكم في العلوم

      التي تحل مشاكل الإنسان .

8ـــ يعرفه ابن تيمية : هو حقيقة عرفية فيمن يتكلم في الدين بغير طريقة المرسلين ، ويعرفه ابن خلدون :

     هو علم يتضمن الحِجاج عن العقائد الايمانية بالأدلة العقلية .

9 ــ عبد الوهاب المسيري : حوارات  1/350 .

كيف عالج القرآن ما وقع للمسلمين في غزوة أحد

                                                                         د . محمد العبدة

تحدثت سورة آل عمران في آيات كثيرة ( 121 ــ 179 ) عن غزوة أحد وما حف بها من أمور قبلها وبعدها ، وقد وضعت السورة ما وقع للمسلمين في أحد في إطار تاريخي ليكون درساً للمسلمين في كل زمان ومكان ، ولذلك جاء في هذه السورة ومن خلال الحديث عن أُحد ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) ونقرأ فيها قوله تعالى ” وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ” .

إن مقارنة الأحداث واستخلاص التجارب والاستفادة من الماضي هو دأب العلماء ودأب المخلصين أولي الألباب قال ابن تيمية وهو يقارن بين واقعة التتار في الهجوم على دمشق وما حصل في موقعة الخندق : ” فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده ، ودأب الأمم وعاداتهم ، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين ذكرها ، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها ، وكشّر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه ، وكاد عمود الكتاب أن يُجتثّ ويخترم ، وعقر دار المؤمنين   

( الشام ) أن يحل بها البوار …. “

الهزيمة بعد النصر :

                                                                                           ( 1 )

لم يكن هناك تكافؤ في العدد بين جيش المسلمين وجيش قريش ، فعدد جيش المسلمين حوالي السبعمائة ، وجيش الكفار ثلاثة آلاف ، ولكن خطة الرسول صلى الله عليه وسلم المحكمة عوضت هذا النقص بأن يكون على جبل الرماة خمسون يحمون المسلمين من التفاف خيل الكفار . وأسند ظهره مع بقية الجيش إلى جبل أحد  وكان النصر حاسماً في بداية المعركة ( إذ تحسونهم بإذنه ) مما أدى إلى تراجع قريش وبداية هزيمتهم . وهنا وقع شيء مفاجىء حوّل مسار المعركة ، إذ نزل أكثر الرماة من الجبل يريدون الغنائم بعد أن لاح النصر وبدأ فرار جيش المشركين ، واستطاع خالد بن الوليد قائد فرسان قريش الالتفاف والقضاء على بقية الرماة ، وعاد المنهزمون من المشركين ، وحوصر المسلمون ، وكان تركيز قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام نفر من المسلمين الأبطال بحمايته بأنفسهم وأبدوا من البطولات الخارقة .

                                                                                                                                 ( 2 )

هذه المقاومة العنيفة من الصحابة الكرام قللت من خسائر المسلمين ، وأشعرت قريشاً أن القضاء على المسلمين ليس أمراً هيناً ، بل أصابت هذه المقاومة الرهبة في نفوس المشركين ، فلم يفكروا في الإغارة على المدينة بعد انتهاء المعركة .

نقد وتربية :

بعد الخطأ والتنازع الذي وقع فيه الرماة ، وما جرَّ ذلك من التفاف خيل المشركين ، بدأت جولة ثانية من المعركة ، وأصيب الرسول صلى الله عليه وسلم وشُجَّ رأسه وكسرت رباعيته ، بعد هذه الجولة تحدّث القرآن وصارح المسلمين بخلجات نفوسهم ، وعرض ما كان فيها من صراع نفسي واضطراب بين نوازع الثبات أو التخلي ، عرض ذلك دون  أن يخفي شيئاً تحدثت به نفوسهم ، وذلك لأنها نفوس إنسانية تصطرع فيها نوازع القوة والضعف ، عرض صورة من القلق قبل المعركة ( إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) تغلّب الإيمان والثبات وعزموا على المضي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسر في قوله تعالى ( والله وليهما ) ، وما الذي حدث أثناء المعركة ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ، حتى اذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ) إن عصيان الرماة واتجاههم نحو الغنائم ( منكم من يريد الدنيا ) حوّل مسار المعركة ، والقرآن الكريم يذكر ثلاث صفات تكفي إحداها للهزيمة : الفشل والتنازع والعصيان ، وهناك طائفة أخرى فروا بعد الصدمة المفاجئة ، ولكنهم ندموا ورجعوا والله سبحانه يعاتبهم على تصرفهم هذا ” إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم “

أصابهم غم الهزيمة وغم الإشاعة أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل ، وغم

                                                                                                                                                            ( 3 )

 الجراح التي أصابتهم ، فهو غم متتابع وليس غماً واحداً ولا غمّين اثنين خاصة وهناك طائفة اختُلف في أمرها ، هل هم من ضعاف الايمان أو من المنافقين ، وذلك بسبب ظنونهم الجاهلية ( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا …. )

يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيره : ” وهذه الطائفة من المؤمنين الضعفاء ولا حاجة إلى جعلها في المنافقين كما قيل ، وقولهم هذا يفيد أن ليس لهم من أمر النصر وعدمه شيء ، فهل نُلام إن ولّينا وغلبنا ، وكأنهم عجبوا مما وقع في أحد ، وكأنه منافٍ لحقية الدين ” والذين قالوا : هي في المنافقين لأنهم ظنوا في الله ظن مشركي الجاهلية ، وأن ظهور المشركين في أحد دليل على بطلان دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم يخفون في أنفسهم هذا الشيء ولا يبدونه .

قال ابن القيم : ” ان ظنهم الباطل ها هنا هو التكذيب بالقدر ، وأنه لو كان الأمر إليهم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم تبعاً لهم لما أصابهم القتل “

عتاب رقيق :

بعد هذه المصارحة والمكاشفة لما في النفوس حتى تبرأمما فيها جاء العتاب في سورة آل عمران رقيقاً فلم يعنّفوا تعنيفاً شديداً على خطئهم وعصيانهم لأوامر قائدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بل أزال عنهم آثار الجراحات وما أصابهم من الغم ، وآنسهم بأنهم هم الأعلون ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يُحب الظالمين وليمحّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين / 139 ـ 141 .

فهذا خطاب لهم لتقوية نفوسهم وإحياء عزائمهم وقال لهم أن هناك حكمة أخرى مما حدث وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين وقال سبحانه مخاطباً رسوله : ” فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم وشاورهم في الأمر ” وهذا من أحسن التربية لأنه لو شدد عليهم زيادة عما هم فيه من الآلام ، فلربما وهن العزم منهم ، قال ابن عطية في تفسيره : ” ومن كرم الخلق ألّا يهن الانسان في حربه وخصامه ولا يلين إذا كان محقاً ولا يضرع ولو مات

                                                                          ( 4 )

 وإنما يحسن اللين في السلم والرضا ” .

السنن الربانية :

من أعظم الدروس المستفادة من أُحد هذا التوجيه الى السنن التي وضعها الله سبحانه في الكون ، وليقول للمسلمين الذين استغربوا ما حصل ، وكيف يُدال للشرك على الاسلام ” أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم ”   أي أن أمر النصر أو الهزيمة وأمر العز والذل والقوة والضعف والغنى والفقر ، كل هذا يجري على سنن ربانية ، فليس الأمر جزافاً ولا مجموعة من المصادفات ، ولو كان الأمر كذلك لما أمكن أن يستفيد الإنسان من تجربة ، والعلم بسنن الله من أهم العلوم التي يجب أن تتجه اليها الأنظار ، قال تعالى : ” هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ” هذا علم يستطيع الانسان الوصول إليه ما اتخذ الى ذلك سبيلا ، ووراء العلم هدىً وموعظة ولذلك لم يشفع للصحابة في أُحد والرسول صلى الله عليه وسلم بينهم وأنهم على حق ، لم يشفع لهم لينتصروا إذا قصّروا أو لم يتخذوا الأسباب المؤدية لذلك .

ليس مجرد الايمان يستتبع النصر ولا مجرد عدالة القضية وإنما الجمع بين قوة العقيدة وقوة التنظيم وقوة التسليح ولمثل هؤلاء قال تعالى ( فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة )

قوانين النصر :

كان التوجيه من خلال معركة أُحد أن فقد القيادة لايعني التراجع والانكسار ، حتى لو كانت هذه القيادة هي شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، ( وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا .

وتعقيباً على أحد قال تعالى ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ) وما كان قولهم الا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ).

ينفي الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء الربيون ثلاث صفات : ما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا ، والوهن يكون في القلب ، وفي الايمان ، والضعف يكون في الجوارح ، فهم يجاهدون دون ضعف ، والإستكانة تكون للعدو وهي الذلة والخضوع له وبعد أن نفى عنهم هذه السلبيات ، تأتي الآية التالية لتحدد الطريق الذي سلكوه للوصول الى هذا المستوى الرفيع .

الخطوة الأولى : أنهم يدخلون المعركة أطهاراً يطلبون المغفرة من الله ، ويدعون أن يثبت الله أقدامهم ، ومن الايمان الراسخ يأتي التثبيت والمواقف الصلبة ، ثم يأتي النصر ( وانصرنا على القوم الكافرين ) .

إن ما وقع في أحد من جراح وآلام وأخطاء لا يفقد المسلمين حقهم في إبداء الرأي ،ومع أن رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في البقاء في المدينة والمدافعة من داخلها كان هو الرأي الصحيح ولكنه صلى الله عليه وسلم أخذ بالشورى عندما وجد أن أكثرية الشباب يريدون الخروج الى أحد . وجاءت الآية ( وشاورهم في الأمر )

وكأنه سبحانه وتعالى يقول له : ” دم على المشاورة كما فعلت قبل هذه الوقعة وإن أخطأوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة ، وشاورهم في الأمر العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم وغير ذلك من مصالحهم

                 ( 5 )

الدنيوية ”  .

ومن الملاحظ أنه من خلال الحديث عن القتال وآثار المعركة تحدثت الآيات عن ( الربا ) : ” يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ” 130

وتحدثت عن الانفاق ( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) / 134 . أي أن من أسباب القوة المطلوبة الإعداد الحربي وهذا لا بد له من المال ، ولا يصح جمع المال عن طريق الربا كما تفعل قريش أو يفعل اليهود في المدينة ، فالغاية لا تبرر الوسيلة، ولا بد من قاعدة اقتصادية قوية ولكن ليست بالطرق الحرام .

بعد الحدث :

وكأن قريش ندمت على عدم استباحة المدينة بعد الذي أحرزوه في أُحد ، ولكنهم تذكروا المقاومة العنيفة التي جوبهوا بها من المسلمين ، ومع ذلك فإن أبا سفيان قائد قريش أرسل من يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم أجمعوا على الرجوع لاستئصال المسلمين .

( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ) .

وفي اليوم التالي لأحد جاءت الأوامر من الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج الى قريش ولا يخرج الا من كان قد حضر أُحداً وبهذه الحركة استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفع من معنويات المسلمين وعسكروا في مكان اسمه ( حمراء الأسد ) وانتظروا قريشاً وعندما علمت قريش بهذا التحرك أصيبت بالرعب وآثروا السلامة واستمروا في سيرهم إلى مكة وكفى الله المؤمنين القتال .  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ــ انسحب ثلثه بتحريض المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول .

2 ــ استشهد سبعون صحابياً رضي الله عنهم  .

3 ــ انظر : ابن القيم ، زاد المعاد 3 / 227

4 ــ المحرر الوجيز  3 / 335 .

5 ــ رشيد رضا / تفسير المنار / سورة آل عمران .

6 ـ من الملراجع : دروس من غزوة أُحد للدكتور عبد العزيز كامل ، فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي

دروس السيرة للدكتور محمد العبدة .

المناقشات العقلية في القرآن الكريم

                                                                     د . محمد العبدة

كثيرة جداً هي الآيات التي تدعو من خلال عرض الأحداث أو من خلال آيات الله في الكون ، تدعو إلى إعمال العقل والتدبر في هذه المسألة أو تلك ، خاصة في موارد الشبهات أو ما يلقيه المجادلون من أسئلة أو مماحكات ، والعقل في القرآن الكريم هو إجراء ذهني يساعد على السيطرة والضبط والتحديد ، هو عملية رشد

                                                                                   ( 1 )                                       

 وتمييز بين الهدى والضلال ، وهو عملية تعقِل صاحبها عن الإتيان بعمل لا يريده الشرع ، وليس هو مادة جامدة اسمها ( العقل ) كما كان الفلاسفة سابقاً يظنون  ولذلك يرد في القرآن دائماً الفعل ( يعقلون ، تعقلون ) .

قال تعالى في الرد على المشركين الذين يستنكرون أن تكون النبوة في البشر (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا )

وكان الرد من القرآن : (قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا) الإسراء / 94ــ 95 .

وكأنه يُقال لهؤلاء : لماذا لا تعقلون ، كيف ينزّل عليكم مَلكاً كما تطلبون أو تعاندون، وتستبعدون أن يكون النبي من البشر .

كيف تتفاهمون مع الملائكة لو أنزلنا ملائكة وحتى لو أنزلنا ملكاً ، فسيكون بشكل رجل ، فتعود الشبهة عندكم (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ )  أي ستقولون إنه بشر وليس ملكاً . وهذا منتهى العناد وقلة العقل عند هؤلاء.

وفي مناقشة الكفار حول دعايتهم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) تعلّم هذا القرآن من قوم من أهل الكتاب أو من الأعاجم قال تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) النحل / 103

وقال (وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) الأنعام / 105

( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً )

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ــ أي تمنع

يقولون : إنك يا محمد قرأت على غيرك وتعلّمت منه وحفظت الدرس بأخبار من مضى ، وتعلّمت هذا من رجلين من الروم كانا في مكة وكان الرد عليهم : كيف تفكرون أليس لكم عقول ، كيف يكون عند هذا الأعجمي الرومي وهو قين ويعمل حدّاداً في مكة هذه الفصاحة في القرآن وهذه البلاغة ، وهذه العلوم الموجودة في نصوصه ثم كيف يكون هذا ، ومحمد صلى الله عليه وسلم أميٌّ لا يكتب فأي صحف قرأها .

كان العرب في الجاهلية يقولون عن أصنامهم : ( اللات والعزّى ومناة ) أنهم بنات الله ، كما كانوا يقولون عن الملائكة أنهم بنات الله ، قال تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَىٰ (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ) وقال تعالى (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا ۚ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ) . يقول لهم : اذا كنتم وحسب تفكيركم تكرهون الأنثى ( ويجعلون لله ما يكرهون ) (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَٰنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ  ) وإذا كنتم تضعون الأنثى في منزلة أدنى من الذكر ، فلماذا تجعلون المستحسن عندكم هو لكم والمذموم عندكم هو لله ؟ هذه قسمة غير عادلة وهذا لبيان عوج تفكيرهم ، وأما قضية الذكر والأنثى والتفضيل بينهما فهذا مذكور في آيات أخرى وعندما قالت اليهود : (مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ) فهذا يلزم منه أن الله تعالى لم ينزّل التوراة وهم يؤمنون بالتوراة وهذا يدل على تناقضهم ولذلك كان الرد (قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ  ) .

وقد ذكر القرآن قول النصارى في المسيح عليه السلام (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ الْغَنِيُّ ۖ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا ۚ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) يونس / 68 .

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا (88) لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا) مريم / 88 ـ 91

(لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) الزمر /4

فقولهم : اتخذ الله ولداً يدل على أنه لم يكن له ولدٌ ثم اتخذ ولداً ، ألجأه سبحانه على اتخاذ الولد ، هل هو بحاجة إليه وهو الغني وله ما في السموات والأرض ، ولو فرضاً أراد أن يتخذ ولداً فيصطفي من يشاء من خلقه ويحصل به المقصود فلماذا عيسى عليه السلام ، وهو سبحانه ليس بحاجة لذلك ثم إنّ ( الولد ) لا يتخذ بل يتولد وهذا تنبيه لهم وإزراءٌ بهم الذي أدى إلى تناقضهم فكيف يكون ولد وكيف يتخذ ؟

وقال تعالى حاكياً قول قريش (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ۚ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ) فهم يقولون : إذا اتبعناك يا محمد فإن الناس سيأكلوننا بسبب دعوتك الجديدة . وردّ الله سبحانه عليهم : من الذي مكن لكم هذا الحرم حتى أصبحتم آمنين في ظله يحترمكم الناس بسببه ، وأصبحت تجارتكم غادية رائحة بأمان واطمئنان وأصبحتم أغنياء بسبب الإيلاف الذي أقمتموه والذي هو سبب احترام العرب لكم وأنكم من أهل الحرم ، لماذا لا تفكرون بعقولكم ؟ .

وقد اتهمت قريش الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إنما يدعي النبوة ليستفيد منها رئاسة ومالاً ، فقال لهم سبحانه ( قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) يونس / 16.

أي قل لهم يا محمد لو كنت أريد الدنيا والرئاسة لطلبتها في مقتبل العمر وأنا معكم وتعرفونني فلماذا أنتظر حتى أبلغ سن الأربعين ، أليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل .

يطلب القرآن من الناس استخدام عقولهم ، وأعطاهم الأمثلة على ذلك وأنهم اذا استعظموا شيئاً فهناك ما هو أعظم منه ، أي ليتعلموا المقارنة والملاحظة قال تعالى (  أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) ) القيامة  .

أي اذا كان الكفار ينكرون البعث والقيام من القبور ، فإن الله سبحانه سوّى البنان وهو شيء أدق وأعظم وقد كشف العلم الحديث عن سر البصمات التي في أطراف الأصابع وكما جاء على لسان يوسف عليه السلام (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) يوسف/ 39                          .

(وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ابراهيم/8  أي فكروا في أنفسكم ، ماذا تضرون الله إن كفرتم ، إنما تضرون أنفسكم ، وأنتم المستفيدون من الإيمان في الدنيا والآخرة .

المقدمات قبل استرجاع القدس

د.محمــد العـبــدة

هل يعيد التاريخ نفسه؟ سؤال يتكرر وتختلف الإجابة بين النفي والاثبات، والحقيقة أن الحوادث تتشابه ولكنها لاتتكرر بالصورة نفسها وبقدماتها ونتائجها. أوضاعنا اليوم سواء كان الاحتلال الصهيوني للأراضي المقدسة أو الاحتلال الباطني المجوسي لجزء كبير من بلاد الشام. هذه الأوضاع فيها شبه كبير بالأوضاع التي كانت في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس الهجريين، فالفرنجة (الصليبيون) احتلوا سواحل الشام وبيت المقدس، والمسجد الأقصى، والعبيديون (الفاطميون) سيطروا على مصر وتمددوا إلى بلاد الشام واليمن. فما هي مقدمات المقاومة لهذا الغزو  وهذا الاحتلال ، وما هي النتائج الطيبة التي كان من اثارها اندحار الفريقين: القادم من بعيد للاحتلال وإشعالها حربا مقدسة ضد المسلمين والداخل المنافق من الباطنيين. كانت البداية من العلماء، ومن خلال المسجد، وكان أول المتصدين في الشام لاجتياح الفرنجة هو الفقيه الشافعي علي بن طاهر السلمي(421 – 500)هـ الذي اتخذ من جامع دمشق مركزا لتدريسه وبث آرائه، ومن هذا الجامع أسس قاعدة للمقاومة عمل فيها تلاذمته في سلسلة متواصلة حتى وفد نور الدين محمود على دمشق واتخذها عاصمة له. كان الفرنجة على أبواب أنطاكية عندما بدأ السلمي يناشد المسلمين الوقوف صفا واحدا متحدا، ومذكرا مما عندهم من القوى والموارد البشرية لبدء الجهاد الدفاعي عن المسلميين وأراضي المسلمين.

ويكتب الإمام ابن عساكر إلى السلطان نور الدين محمود:

          ولست تعذر في ترك الجهاد وقد              أصبحت تملك من مصر إلى حلب

          فطهر المسجد الأقصى وحوزته               من النجاسات والأشواك والصلب  

كانت رؤية السلمي لأهداف الحملة الصليبية واضحة، فهي حرب دينية وليست جموع جاءت للسلب والنهب كأنه ليس لها هدف اخر، كما يحاول البعض اليوم تفسيرها بأنها حروب اقتصادية جاءوا لبلاد   الشام لما فيها من الخيرات، والسلمي يقول هذه حروب شفاء لصدورهم الحاقدة وكرد على الفتوحات الإسلامية لبلاد الروم والأندلس.

بعد هذا التأسيس للجهاد والتنظير له والدعوة إليه كانت الخطوة العملية هي إنشاء المدارس السنية، ففي الشام تولى ذلك السلطان نور الدين محمود، وفي مصر كانت البداية من الاسكندرية، وقد تم ذلك على يد علماء قصدوها من المغرب مثل أبي بكر الطرطوشي, وفي المشرق مثل أبي طاهر السلفي، وأسسوا فيها مدارس كان لها أثر كبير في مشروع الإحياء السني و حركة الجهاد ضد الصليبيين، وفي القاهرة بدأ صلاح الدين إصلاحاته وحتى قبل القضاء النهائي على الفاطميين، وذلك بتأسيس عدد من المدارس على المذاهب الأربعة، بني أولها للمذهب الشافعي، وفي سنة 566هـ أنشأ مدرسة للمالكية بجوار جامع عمرو بن العاص، وأسس ابن أخيه تقي الدين عمر مدرسة أخرى للشافعية، وساهم وزير صلاح الدين عبد الرحيم البيساني العسقلاني (القاضي الفاضل) بمدرسة من أغنى هذه المدارس، وهذه المدارس شبيهة بالمدارس التي أسسها نور الدين محمود في الشام على غرار المدارس النظامية التي أنشأها وزير السلاجقة نظام الملك .

كان صلاح الدين ووزيره القاضي الفاضل على علم بالعدو الداخلي الذي بتآمر مع العدو الخارجي ، وكانا على علم أن من أسباب النصر معرفة العدو على حقيقته بلا تزييف ولاغفلة ، وإن رسائل القاضي الفاضل عن صلاح الدين إلى السلطان نور الدين محمود وإلى الخليفة العباسي في بغداد تدل على الوعي الكامل لخطر الباطنيين وأنهم أعداء كما الصليبيين ، والأمر الخطير هو تعاون الطرفين على أهل السنة ، ولذلك فإن الخطوة الاولى هي تطهير الأرض من أرجاس العدو الداخلي والإنتهاء من نفاقه ودسائسه وجاءت الخطوة الأخيرة حين قضى صلاح الدين على المؤامرات من حاشية القصر وجند الفاطميين ودارت المعارك في شوارع القاهرة بين الفرقة العسكرية التي مع صلاح الدين وبين المتآمرين من جند الملك العبيدي ( العاضد ) انتصر فيها صلاح الدين وتمهدت الأمور لإنهاء هذه الدولة التي حكمت مصر أكثر من مئتي سنة  . جاء في رسالة من القاضي الفاضل إلى نور الدين محمود : ” ولم يزل ( صلاح الدين ) يتوسم من جند مصر ومن أهل القصر بعد ما أزال الله من بدعتهم أنهم أعداء وإن تعدت بهم الأيام ، وكان أكثر ما يتعللون به ويستريحون إليه المكاتبات المتواترة والمراسلات المتقاطرة إلى الفرنج خذلهم الله، التي يوسعون لهم فيها المطامع، ويزينون لهم الإقدام والقدوم، ويخلعون فيها ربقة الإسلام خلع المرتد الخصوم” (1) ومن رسالة إلى الخليفة العباسي يبين فيها القاضي الفاضل أن القضاء على الفاطميين هو سلسلة لتوحيد أهل السنة والقضاء على الانقسام في العالم الاسلامي، والتخلص من الإلحاد والفجور يقول” والذي أجراه الله على يد المملوك (2) والمماليك التي دوخها وسنن الضلال التي نسخها وعقود الإلحاد التي فسخها وحجج الزندقة التي ضحدها فلله عليه المنَّة فيه إذ أهّله لشرف مشهده وما فعله إلا لوجهه، ويد الله كانت عون يده” (3) ومن رسالة أخرى إلى الخليفة العباسي يوضح فيها أوضاع مصر في عهد الفاطمية وكيف كان حال أهل السنة “وإن كلمة السنة بها وإن كانت مجموعة فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة فإنها متحاماة، هذا إلى استباحة للمحارم ظاهرة وتعطيل للفرائض، وكفر سُمّي بغير اسمه وشرع يتستر به ويحكم بغير حكمه، وفي أثناء ذلك استنجدوا علينا الفرنج ونحن نقاتل العدوين الباطن والظاهر، ونصابر الضررين المنافق والكافر” (4)

إذا لا بد من إزالة الخطر الباطني أولا وفي عام 576هـ أنهى صلاح الدين الدولة الفاطمية في مصر وعادت البلاد لأهل السنة وتوحدت الشام ومصر “وتوالت الفتوح غربا ويمنا وشاما، وصارت البلاد بل الدنبا  حرما حراما، فأضحى الدين واحدا بعد ما كان أديانا والبدعة خاشعة والمذلة في شيع الضلال شائعة” (5) وفي عام 583هـ كانت موقعة حطين التي انتصر فيها المسلمون نصرا عظيما على الصليبيين وبعدها تم استرجاع القدس واسترجاع الأقصى وبقية المدن الساحلية، وأصبح واضحا أن طريق الاسلام هو طريق أهل السنة، وكل طريق غيره لا يوصل إلا إلى الخلاف وتبديد القوى والطاقات.

  1. هادية الدجاني: القاضي الفاضل ودوره في دولة صلاح الدين / 147 
  2. يقصد صلاح الدين. وكانت هذه طريقة في المخاطبات.
  3. القاضي الفاضل ودوره في دولة صلاح الدين /151
  4. المصدر السابق / 153
  5. المصدر السابق /152

لماذا المراجعات

                                                                د. محمد العبدة

هل سأل أحد نفسه هذا السؤال : لماذا نجد أن أكثر اللاجئين في العالم وفي هذه السنوات الأخيرة هم من المسلمين ؟ لماذا هذا التشرد وهذا القتل ، بل هذا العذاب وهذا التخريب للأوطان والتغريب للإنسان ؟ هل هذا شيء طبيعي ؟ هل يجب أن نعتبر هذا من الابتلاء والمحن وحسب ؟ وعلى المسلمين الصبر وانتظار الفرج ،أم أن هناك مشكلة ما ، وأن هناك أخطاء من فعلنا وكسبنا ؟ ويجب أن نقف قليلاً أوكثيراً لنراجع أنفسنا ونراجع منهجنا في العمل وخطواتنا في السير ، بل ومنهجنا في الفكر وفهم هذا الدين .

نعم ، يبتلي الله سبحانه وتعالى عباده ليمحص الصفوف وينقي الصدور ، ليخرج المؤمنون بعد ذلك أصلب عوداً وأشد ايماناً ، والابتلاء سنة من السنن الربانية ،قال تعالى ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين )محمد / 31 ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ) البقرة / 155 ولكن هل يستمر البلاء أم أن من سنته تعالى أيضاً الفرج بعد الشدة ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) غافر / 51 والأصل أن المسلم يسعى ألاّ يتعرض للابتلاء ولايطلبه ويتمناه كما جاء في الحديث النبوي ( لاتتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية ) .

قال ابن القيم رحمه الله : ” فمن ظن أن الله لاينصر دينه وكتابه ، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستمرة يضمحل معها التوحيد فقد ظن بالله ظن السّوْء ، فإن حكمته تأبى ذلك وتأبى أن يذل حزبه وجنده ، وأن يكون الظفر لأعدائه ، ومن ظن ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه وصفاته ” ( 1 )

لماذا لا نفكر أن هناك مشكلة ما في حاضر المسلمين وواقعهم ، لماذا لا نبحث عن الأخطاء الكبيرة التي ارتكبت ، عن الأشياء الثمينة التي ذهبت من أيدينا ونحن غافلون ، قد يكون هناك أخطاء في النظرة إلى المجتمع الذي نريد له النهوض وأن ننهض معه ، والنظرة إلى ما حولنا من تجمعات وكيانات ودول ، وإذا اكتشفنا أننا على جبل صغير ألا يجب أن نفكر كيف نهبط ونعبر السهول لنتسلق جبلاً أعلى ، وهذا يعني التخلي عن الأفكار الميتة التي نحملها .لماذا لم تستطع الحركات الإسلامية أن ترتقي لتصبح تياراً عاماً ويستفيد من كل طاقات الأمة ، ومن الملاحظ في الشركات التي فقدت المرونة أن الابتكارات تأتي غالباً من أشخاص لا يعملون في الشركة إنما يكونون من خارجها لماذا لا نلاحظ أنه عندما يزداد العلم ويبدأ التفكير وتبدأ المناقشات فسوف ينسحب البعض لأنه لا يستسيغ طرق التفكير الساذجة وهذا خسارة للدعوة .

هل فكرنا بما ستؤول إليه الأمور ، بالاستراتيجيات أم مازلنا نحب التفكير الآني القصير المدى والنتائج الفورية ” إن التجربة الدعوية حتى لو كانت ناجحة تحتاج هي الأخرى بعد مرحلة معينة لإعادة النظر ، لأن كل نجاح ينتهي إلى أزمة عندما يقع الإخلاد له واعتباره نهاية المطاف ” ( 2 )

إن الناظر إلى الساحة اليوم لايبصر حركة في اتجاه واحد ، اتجاهاً بناءاً ، وإنما يلاحظ دوامات وجيوباً منفصلة ، كل جيب استأثر بجزء من شباب الأمة ، قد يكون التعدد شيئاً واقعاً ولكن يجب أن ننكر الدوران في الدوامة نفسها ، في الدوائر المغلقة المعزولة ، والمتشاحنة أحياناً .

هل نمارس النقد الذاتي أم نقول : نحن قمنا بما يجب علينا وعملنا كل الذي نستطيع ولكن المؤامرات الخارجية هي التي عملت بكل جهدها لصدنا عن مشروعنا وعطلت كل خططنا ، ثم نحن غير مسؤولين عن النتائج . إن الجملة الأخيرة من مقولتهم هي كلمة حق أريد بها تبرير الكسل الفكري والعملي وعدم الاعتراف بالتقصير في الأخذ بالأسباب الكافية .

ألم يتمكن المسلمون في أفغانستان من دخول العاصمة كابل ثم اختلفوا وتنازعوا وفشلوا ، وجاءت طالبان ووقعت في أخطاء كبيرة أيضاً ، وعادت أفغانستان تحت الاحتلال مرة ثانية ؟ ألم تنجح الحركة في السودان في استلام أمور الحكم ولكنها لم تستثمر هذا النجاح في وقته وذهبت الفرصة ؟ لماذا لم تستثمر ثورة الشعب في مصر ، في تجمع ميدان التحرير وسارت الأمور بطريقة فيها تبسيط وسذاجة وعادت الأمور أسوأ من ذي قبل ؟

هل هذا شيء طبيعي ؟ لا أعتقد ذلك  ، بل هي الأخطاء والفشل الذي يجب الاعتراف به ثم تصحيح المسار بعد الاعتماد على الله سبحانه وحده .

  • زاد المعاد : 3/ 229
  • محمد الميلي : المعرفة والأمل / 163

المصطلحات وأثرها على الفكر الإسلامي

د.محمد العبدة

نعى القران الكريم على أناس يلجأون إلى الخداع اللفظي وخلط الأوراق أو الغموض في المصطلحات حتى تفسر على عدة أوجه، وبذلك تترتب نتائج زائفة على مقدمات قد يكون بعضها صحيح وبعضها باطل. قال تعالى متحدثا عن بني اسرائيل وأن من صفاتهم هذا الخداع وهذا الخلط (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) البقرة /42 وقال: <<يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون.>>(ال عمران/71) وقال <<ومن الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه>> (النساء /46) وقد نزل القران الكريم بلسان عربي مبين واضح لا لبس فيه ولا غموض والمصطلحات الذي يذكرها محددة ومفهومة. الجهاد، الهجرة، الإيمان، الإسلام، الشورى…

وهذا الوضوح بهذا اللسان العربي نقرؤه اليوم كما قرأه الذين عاصروا نزوله هو الذي حماه –بعد حفظ الله- من التأويلات الفاسدة وتحريف الكلم عن مواضعه كما وقع للكتب السابقة، فهذه اللغة حددت المعاني بطريقة جازمة، ومعنى جعله قرآناً عربيا، لأن أهل تلك اللغة أفهم لدقائقها، وليكونوا المبلغين عن مراد الله سبحانه إلى الأمم. إن الخطوة الضرورية في مسيرة الفكر الإسلامي ومسيرة النهضة الثقافية هي العناية باللغة وتحديد معنى المصطلحات وتحريرها حتى يقوم الحوار أو البحث على أسس علمية، لأن الغموض في المصطلحات لا بد أن يؤدي إلى غموض في الفكر وإلى التشوش والارتباك. قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام <<ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه>> (الزخرف/63) والتبيين هو تجلية المعاني الخفية لغموض أو سوء تأويل.

إن خطورة المصطلحات وأثرها الكبير تأتي عندما تنتقل من ثقافة إلى ثقافة أخرى ولا يبحث عما ما وراءها، وعن جذورها وفي أي بيئة نبتت، وما يحيط بها من رؤية للعالم. لقد وقع مبكرا هذا اللبس في تاريخنا الثقافي وذلك عندما ترجمت كتب اليونان، وخاصة التي تتعلق بالإلاهيات (وما بعد الطبيعة) وكان للقوم مصطلحات معينة حسب لغتهم وحسب مفاهيهم، فلما نقلت إلى العربية حرفيا أحدثت اضطرابا وخلطا في الثقافة الإسلامية. كانت مفاهيم جديدة وغريبة عن رؤية المسلمين للعالم، يقول أحد الباحثين (ليس هناك مصطلح مفتاحي واحد في الفلسفة الإغريقية تم إيجاد مقابل تام له في اللغة العربية ومن الأمثلة على ذلك أن كلمة (عقل) في المصطلح القراني تحولت إلى المضطلح الفلسفي لتتماشى مع كلمة (nous) اليونانية، وأصبحت كلمة عقل هي التدرج في مراحل (الفيض) بوصفه (العقل) المصدر الأول عن الجوهر الإلاهي نزولاً  حتى يصل إلى العقل الإنساني.) (1)

وهكذا يضيع الإنسان عندما لا يهتدي بنور الوحي كما وقع للفارابي وأمثاله (2) وإذا كان اليونانيون قد تفوقوا في عصرهم بالعلوم الطبيعية فهذا لا يعني أنهم متفوقون في الأمور الأخرى، فهم في الأمور الإلهية من أجهل الناس كما يقول شيخ الإسلام إبن تيمية (3). وعندما انحرف المسلمون عن المنهج الذي سار عليه خير القرون وبدأوا بالبحث عن (الذات) الإلهية والصفات فإنهم كانوا يتمثلون الطريقة الإغريقية التي تنزع إلى تفسير الوجود كله في إطار (الجواهر والأعراض) مما أوقع المسلمين في جدل عقيم الذي سمي بعلم الكلام ونتج عنه التفرق وبروز الفرق المنحرفة عن منهج أهل السنة.

إن أول من رفض الالة المنطقية اليونانية هو الإمام الشافعي رحمه الله، رفض الالة لأنه يرفض المضمون الذي تحملة هذه الالة، فهذا المنطق قائم على أساس من تراكيب اللغة اليونانية.

وفي العصر الحديث نقلنا المصطلحات الغربية دون أن ننتبه إلى ما تلقي من ظلال معينة، ودون أن ندرك المفاهيم الكامنة وراءها، والثقافة التي أنتجتها، وأن لها معان عند القوم غير موجودة في ثقافتنا، وزدنا على ذلك أننا قمنا بترجمة هذه المصطلحات حرفيا ولنأخذ مثالا على ذلك كلمة (الأصولية ) التي شاعت عند بعض الكتاب وبعض الصحف عندنا، يعنون بذلك كل مسلم ملتزم بدينه علما وعملا، وهي ترجمة لكلمة (fundamentalism) التي تعني بالدرجة الأولى تفسيرات البروتستانت الحرفية للعهدين القديم والجديد، ونحن المسلمين ليس عندنا هذه الحرفية في تفسير وفهم النصوص بل المطلوب شرعا فهمها وتدبرها وتعقلها والاجتهاد مفتوح للعلماء القادرين على ذلك.

إن مصطلح الدين عندهم (religion) هو العلاقة بين الإنسان وخالقه فقط أو التوجه الروحي وليس له دخل في حياة الانسان الدنيوية، ولكن الدين عندنا بمفهومه الإسلامي شامل لكل شؤون الحياة، ولذلك يستغرب بعضهم انشغال المسلمين بالسياسة وأطلقوا كلمة الإسلام السياسي – طبعا بعضهم أطلقها تعمدا- ورددها الببغاوات عندنا، ومصطلح الإيمان عندنا لا يقابله كلمة (faith) الإنجليزية التي تعني الإعتقاد بصحة مسائل وإن اعتبروها غير مقنعة عقليا خاصة بعض أن انتشر مبدأ الشك والنسبية في الثقافة الغربية. الإيمان الإسلامي هو اليقين فليس هناك زيف أو شكوك. ولنأخذ مصطلح (التقدم) نستخدمه دون أن نحدد مضمونه هل هو إقامة العدل في الأرض والأمر بالمعروف أم هو الانتاج والاستهلاك، ينظر الغربي إلى تاريخه فيعتبر ما هو فيه الان تقدم، فهل هناك تاريخ واحد لجميع البشر ويمرون بالمراحل نفسها.

المسلمون لا يريدون دولة (قومية) بالمعنى المتعارف عليه اليوم ولكنهم يستخدمون المصطلح الإنجليزي (nation) بمعنى (الأمة) ولكن مصطلح الأمة القرآني يختلف تماما لأنه قائم على رؤية عقدية سياسية. وهكذا يطلق الغرب مصطلحات إما أن تدل على طريقة تفكيرهم أو لأسباب سياسية استعمارية مثل إطلاقهم على المنطقة العربية (الشرق الأوسط) لإبعاد الهوية العربية الإسلامية، وكذلك يقيسون العالم بالنسبة لهم فهناك شرق أدنى، وشرق أوسط وشرق أقصى. وقالوا عن الدولة العثمانية (رجل أوروبا المريض) والدولة العثمانية ليست أوروبية ولكنهم ينظرون إليها باعتبارها ميراث يجب تقسيمه بينهم.

ولعلاج هذا الخلل في المصطلحات نعود إلى دراسة المصطلح الغربي من خلال سياقه الأصلي ومعرفة مدلولاته ومقاصد القوم منه، وإذا ترجم حرفيا نتحفظ عليه أو نضع مصطلحا يوضح المفهوم الكامن وراءه، لأننا نلاحظ أن هناك نزوعا ضمنيا لتقريب مصطلحاتنا ومفاهيمنا إلى الشيء السائد في الغرب، وهذا مما يبعدنا عن الإصلاح الحقيقي.

فإذا أتينا إلى المضطلحات التي يدور الحديث عنها اليوم (وهي بيت القصيد) الدولة المدنية، المواطنة، الوطنية، الحرية ، الديمقراطية.. إلخ. فيجب أن نعاملها بالقاعدة السابقة: أصل المصطلح وأين نشأ وما هو مفهومه عندهم، إن مصطاح الدولة المدنية نشا من خلال صراعهم مع الكنيسة وتسلطها ومن خلال نظام (الثيوقراطية) حين كان ملوك أوروبا يحكمون باسم الإله، أي أنهم مقدسون، ومفهوم الثيوقراطية غير موجود عندنا نحن المسليمين، والإسلام له نظرته الخاصة في الإقتصاد والحكم والسياسة، فالدولة المدنية هي في الحقيقة مقابل (الدولة الدينية) مع أنه ليس عندنا شيء اسمه دولة دينية بالمصطلح الغربي وليس عندنا طبقة رجال الدين هم الذين يحكمون، ولكنها دولة تحكمها الشريعة أي دستور ونظم منبثقة عنها، ولا يقال هنا نحن نقصد أنها ليست دولة عسكرية، فالغرب عندما أطلق هذا المصطلح لم يكن عنده دولة عسكرية.

ومصطلح المواطنة مصطلح غامض، فنحن عندنا شيء اسمه انتماء إلى (أمة) وغير المسلم هو مواطن له حقوقه الخاصة وحقوقه العامة وكذلك عليه واجبات يتفق عليها التي تطلب منه ، وهذا شيء طبيعي في الدول والحضارات، بل هذا أفضل ما عرفته البشرية من تفاهم وتعايش مع وجود الإختلاف في الدين. بينما نجد في بعض الدول الغربية اليوم أن مسمى المواطنة تعني الخضوع لكل التقاليد والأفكار والرؤى الإجتماعية، وأعتقد أن هذا المصطلح وأمثاله يجب أن يخضع للحوار ولتحريره من اللبس والغموض.

أما الديمقراطية فهذه ليست مصطلح وحسب بل هي نظام سياسي معين سواء من حيث الشكل أو المضمون، وقد تتدرج وتأصل في الغرب في العصر الحديث ومن غير المعقول نقل نظام كهذا إلى شعوب هي بحاجة إلى نظام سياسي يحافظ على هويتها وشخصيتها ويراعي ظروفها وأسلوب حياتها. وهذا لا يعني أننا منغلقون عن أي شيء مفيد يأتي من الغرب أو الشرق وليس عندنا إشكال في المصطلحات إذا تم توضيحها، فعندما شاع مذهب الجبرية أي أن الانسان مجبور على أفعاله قال العلماء هذا مصطلح غير شرعي ولكن قد يجبل الإنسان على شيء من كما ورد في الحديث مع وفد عبد القيس،  يقول العلامة البشير الإبراهيمي: (إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر وكلاهما قبيح، وهوتزوير على الحقيقة وتغليط للتاريخ) (5)

انظر: حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري الجزء 1

نظرية الفيض تقول بها المدرسة الغنوصية التي هي تلفيق من المانوية الفارسية والهيلينية اليونانية، والعقول عندهم عشرة الأول اسمه العقل الفعال ثم ينزلون بتدرج إلى العقل الإنساني وهذا مرتبط بالكواكب من اثار الوثنية اليونانية. وكلها تخيلات لا أساس لها من الواقع.

من جهلهم أنهم ألهوا الإنسان ثم أظهروا آلهتهم على شكل مخادعين ومتآمرين على بعضهم البعض ويرتكبون الزنا والسرقة، ويغار أحدهم من الاخر.

الجوهر الفرد باصطلاحهم كيان مصمت مستقل قائم بذاته ذرة مصمتة، فالجوهر ثابت والأعراض متحولة وهي قائمة بالجوهر ليس لها كيان مستقل.

الاثار الكاملة 3/18

 

المقدمات قبل استرجاع القدس

د.محمــد العـبــدة

هل يعيد التاريخ نفسه؟ سؤال يتكرر وتختلف الإجابة بين النفي والاثبات، والحقيقة أن الحوادث تتشابه ولكنها لاتتكرر بالصورة نفسها وبقدماتها ونتائجها. أوضاعنا اليوم سواء كان الاحتلال الصهيوني للأراضي المقدسة أو الاحتلال الباطني المجوسي لجزء كبير من بلاد الشام. هذه الأوضاع فيها شبه كبير بالأوضاع التي كانت في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس الهجريين، فالفرنجة (الصليبيون) احتلوا سواحل الشام وبيت المقدس، والمسجد الأقصى، والعبيديون (الفاطميون) سيطروا على مصر وتمددوا إلى بلاد الشام واليمن. فما هي مقدمات المقاومة لهذا الغزو  وهذا الاحتلال ، وما هي النتائج الطيبة التي كان من اثارها اندحار الفريقين: القادم من بعيد للاحتلال وإشعالها حربا مقدسة ضد المسلمين والداخل المنافق من الباطنيين. كانت البداية من العلماء، ومن خلال المسجد، وكان أول المتصدين في الشام لاجتياح الفرنجة هو الفقيه الشافعي علي بن طاهر السلمي(421 – 500)هـ الذي اتخذ من جامع دمشق مركزا لتدريسه وبث آرائه، ومن هذا الجامع أسس قاعدة للمقاومة عمل فيها تلاذمته في سلسلة متواصلة حتى وفد نور الدين محمود على دمشق واتخذها عاصمة له. كان الفرنجة على أبواب أنطاكية عندما بدأ السلمي يناشد المسلمين الوقوف صفا واحدا متحدا، ومذكرا مما عندهم من القوى والموارد البشرية لبدء الجهاد الدفاعي عن المسلميين وأراضي المسلمين.

ويكتب الإمام ابن عساكر إلى السلطان نور الدين محمود:

          ولست تعذر في ترك الجهاد وقد              أصبحت تملك من مصر إلى حلب

          فطهر المسجد الأقصى وحوزته               من النجاسات والأشواك والصلب

كانت رؤية السلمي لأهداف الحملة الصليبية واضحة، فهي حرب دينية وليست جموع جاءت للسلب والنهب كأنه ليس لها هدف اخر، كما يحاول البعض اليوم تفسيرها بأنها حروب اقتصادية جاءوا لبلاد   الشام لما فيها من الخيرات، والسلمي يقول هذه حروب شفاء لصدورهم الحاقدة وكرد على الفتوحات الإسلامية لبلاد الروم والأندلس.

بعد هذا التأسيس للجهاد والتنظير له والدعوة إليه كانت الخطوة العملية هي إنشاء المدارس السنية، ففي الشام تولى ذلك السلطان نور الدين محمود، وفي مصر كانت البداية من الاسكندرية، وقد تم ذلك على يد علماء قصدوها من المغرب مثل أبي بكر الطرطوشي, وفي المشرق مثل أبي طاهر السلفي، وأسسوا فيها مدارس كان لها أثر كبير في مشروع الإحياء السني و حركة الجهاد ضد الصليبيين، وفي القاهرة بدأ صلاح الدين إصلاحاته وحتى قبل القضاء النهائي على الفاطميين، وذلك بتأسيس عدد من المدارس على المذاهب الأربعة، بني أولها للمذهب الشافعي، وفي سنة 566هـ أنشأ مدرسة للمالكية بجوار جامع عمرو بن العاص، وأسس ابن أخيه تقي الدين عمر مدرسة أخرى للشافعية، وساهم وزير صلاح الدين عبد الرحيم البيساني العسقلاني (القاضي الفاضل) بمدرسة من أغنى هذه المدارس، وهذه المدارس شبيهة بالمدارس التي أسسها نور الدين محمود في الشام على غرار المدارس النظامية التي أنشأها وزير السلاجقة نظام الملك .

كان صلاح الدين ووزيره القاضي الفاضل على علم بالعدو الداخلي الذي بتآمر مع العدو الخارجي ، وكانا على علم أن من أسباب النصر معرفة العدو على حقيقته بلا تزييف ولاغفلة ، وإن رسائل القاضي الفاضل عن صلاح الدين إلى السلطان نور الدين محمود وإلى الخليفة العباسي في بغداد تدل على الوعي الكامل لخطر الباطنيين وأنهم أعداء كما الصليبيين ، والأمر الخطير هو تعاون الطرفين على أهل السنة ، ولذلك فإن الخطوة الاولى هي تطهير الأرض من أرجاس العدو الداخلي والإنتهاء من نفاقه ودسائسه وجاءت الخطوة الأخيرة حين قضى صلاح الدين على المؤامرات من حاشية القصر وجند الفاطميين ودارت المعارك في شوارع القاهرة بين الفرقة العسكرية التي مع صلاح الدين وبين المتآمرين من جند الملك العبيدي ( العاضد ) انتصر فيها صلاح الدين وتمهدت الأمور لإنهاء هذه الدولة التي حكمت مصر أكثر من مئتي سنة  . جاء في رسالة من القاضي الفاضل إلى نور الدين محمود : ” ولم يزل ( صلاح الدين ) يتوسم من جند مصر ومن أهل القصر بعد ما أزال الله من بدعتهم أنهم أعداء وإن تعدت بهم الأيام ، وكان أكثر ما يتعللون به ويستريحون إليه المكاتبات المتواترة والمراسلات المتقاطرة إلى الفرنج خذلهم الله، التي يوسعون لهم فيها المطامع، ويزينون لهم الإقدام والقدوم، ويخلعون فيها ربقة الإسلام خلع المرتد الخصوم” (1) ومن رسالة إلى الخليفة العباسي يبين فيها القاضي الفاضل أن القضاء على الفاطميين هو سلسلة لتوحيد أهل السنة والقضاء على الانقسام في العالم الاسلامي، والتخلص من الإلحاد والفجور يقول” والذي أجراه الله على يد المملوك (2) والمماليك التي دوخها وسنن الضلال التي نسخها وعقود الإلحاد التي فسخها وحجج الزندقة التي ضحدها فلله عليه المنَّة فيه إذ أهّله لشرف مشهده وما فعله إلا لوجهه، ويد الله كانت عون يده” (3) ومن رسالة أخرى إلى الخليفة العباسي يوضح فيها أوضاع مصر في عهد الفاطمية وكيف كان حال أهل السنة “وإن كلمة السنة بها وإن كانت مجموعة فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة فإنها متحاماة، هذا إلى استباحة للمحارم ظاهرة وتعطيل للفرائض، وكفر سُمّي بغير اسمه وشرع يتستر به ويحكم بغير حكمه، وفي أثناء ذلك استنجدوا علينا الفرنج ونحن نقاتل العدوين الباطن والظاهر، ونصابر الضررين المنافق والكافر” (4)

إذا لا بد من إزالة الخطر الباطني أولا وفي عام 576هـ أنهى صلاح الدين الدولة الفاطمية في مصر وعادت البلاد لأهل السنة وتوحدت الشام ومصر “وتوالت الفتوح غربا ويمنا وشاما، وصارت البلاد بل الدنبا  حرما حراما، فأضحى الدين واحدا بعد ما كان أديانا والبدعة خاشعة والمذلة في شيع الضلال شائعة” (5) وفي عام 583هـ كانت موقعة حطين التي انتصر فيها المسلمون نصرا عظيما على الصليبيين وبعدها تم استرجاع القدس واسترجاع الأقصى وبقية المدن الساحلية، وأصبح واضحا أن طريق الاسلام هو طريق أهل السنة، وكل طريق غيره لا يوصل إلا إلى الخلاف وتبديد القوى والطاقات.

هادية الدجاني: القاضي الفاضل ودوره في دولة صلاح الدين / 147

يقصد صلاح الدين. وكانت هذه طريقة في المخاطبات.

القاضي الفاضل ودوره في دولة صلاح الدين /151

المصدر السابق / 153

المصدر السابق /152