د.محمد العبدة
عندما اقتربنا من أنطاكية وقد ظهرت بعض ملامحها , تبين لي الفرق بين أنطاكية المدينة الكبيرة التي صمدت أمام الحملة الصليبية الأولى , وكانت أول مدينة في بلاد الشام تتعرض لحصار الصليبين , وبين حالها اليوم وقد أصبحت مدينة ثانوية من مدن تركيا , ولكن لقربها من الحدود السورية أصبحت من مراكز الحركة والنشاط للسوريين الذين يسعون لإسعاد بلادهم وإزالة الطغيان والفساد منها , يتوزع الجرحى السوريين في عدد من المشافي في أنطاكية وغيرها من قرى الحدود ونحن نقول (جرحى) ولكن الحقيقة هي أن أكثرهم مصاب بإصابات بليغة وسيتحولون إلى مقعدين بسبب قطع الأيدي والأرجل , وبسبب العمى الذي تسببه الإصابات في الرأس أو الشظايا المتناثرة من (براميل) البارود والنار الذي تقذفه طائرات النظام الأسدي , في أحد تلك المشافي كان العدد أكثر من تسعين مصابين وجدناهم صابرين محتسبين , تبدو عليهم علامات العزم والتصميم – أعانهم الله وشافاهم – بعد هذه الزيارات اتجهنا من خلال طريق جبلي يمر بقرى كثيرة , هي قرى عربية , لأن ما يسمى (لواء اسكندرون) كان جزءاً من بلاد الشام اقتطعته فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى وبعد الاتفاقية مع الدول الغربية المستعمرة , اقتطعته وسلمته إلى تركيا , ليس مهماً اليوم الحديث عن هذا الموضوع وبحثه مع تركيا المعاصرة.ولكن الملاحظ هو عدم العناية المطلوبة بهذه القرى سواء من جهة المواصلات أو غيرها من الخدمات , وبعد أن وصلت إلى قمة هذه المرتفعات وبدأ الانحدار نحو سهول الريحانية لاحت لنا البلدات السورية (سلقين) و (حارم) وغيرها , وتذكرت مدينة (حارم) التي استرجعها نور الدين محمود من الصليبين لا أحد اليوم يعلم أهمية (حارم) في الماضي , إنها مدن وقلاع سالت حولها دماء لتبقى إسلامية عربية واليوم تسيل حولها دماء لتبقى سورية اسلامية عربية , فالنظام الحاكم في سورية ليس عربياً ولا سورياً ولا إسلامياً طبعاً , بل ليس إنسانياً , لا أحد يقوم بهذه الأعمال وهو يملك ذرة من الحس الإنساني.
عندما وصلنا إلى الريحانية كانت الزيارة الأولى للمشافي أيضاً , إنها مأساة كبيرة , سوف يقدر حجمها في المستقبل عندما يظهر الأعداد الكبيرة من المعوقين والمصابين بعاهات دائمة. ومع هذا المأساة لم تتوحد جهود الهيئات الإغاثية المتخصصة بالجرحى , لتشرف بشكل دقيق على كل الجرحى وفي كل الدول حتى لا ينسى البعض ولا أحد يعلم به , أو يساعد الجريح من قبل مؤسستين لأنه لا يوجد تنسيق بينهما هناك جرحى يحتاجون إلى عمليات ينتظرون المساعدة , ربما لا تعلم بهم الهيئات (وهي كثيرة), والحديث عن التوحد يجرنا للحديث عن توحد الفصائل الميدانية , وهو حديث الساعة للضرورة القصوى لذلك البعض يرفض لأنه يحمل توجهاً معيناً لا يحمله الآخرون , ولكن القضية أكبر من ذلك إنه شعب يذبح ومدن تهدم , الهم الأول هو إسقاط هذا النظام , ووقف هذا الدمار وبعدها لكل حادث حديث.