مراجعات مع ( المعالم ) لسيد قطب

د . محمد العبدة

لا أحد يجهل مكانة سيد قطب كداعية ومفكر إسلامي كبير . فقد أثرى المكتبة الإسلامية مبكرًا بمقالاته وكتاباته الواضحة الجريئة مثل : معركة الإسلام والرأسمالية ، السلام العالمي والإسلام ، العدالة الاجتماعية.

كما أثرى الدراسات القرآنية بكتابه : التصوير الفني في القرآن وكتابه : مشاهد القيامة في القرآن.

وكان قمة عطائه تفسيره ( في ظلال القرآن ) ثم ظهر كتاب ( معالم في الطريق) وبعضه استخراج من ( الظلال ) وهذا ( المعالم ) كان له دور  كبير ، وله تأثير واضح على شباب الحركة الإسلامية ، ( والكتاب صيغ بأسلوب يمتاز بالوضوح والقوة والجد والجمال واللهجة الصادقة ، وأغلى ما فيه هذه الروح الاستعلائية الاعتزازية التي تمثل مرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية المعاصرة [1]) .

ومن أسباب تأثير الكتاب أنه ظهر في وقت كان كاتبه من المعارضين للسلطة في بلده ، وهو سجين هذه السلطة التي صادرت الكتاب وحاولت المنع من انتشاره ودفع الكاتب حياته ثمنًا لهذا الصمود أمام الظلم وذهب شهيدًا بإذن الله .

استُقبل هذا الكتاب من فئة وجدت فيه ضالتها المنشودة ورائدها المأمول وأنه هو الطريق الصحيح ، حتى لو وجدت فيه بعض الإشكالات التي يتوقف عندها القارىء فإنها تبرر للمؤلف وأنه كان يقصد كذا ويقصد كذا .

وهناك فئة أخرى تعترف بما فيه من الحق والبيان الواضح ولكنها ترى أن في بعض فصول الكتاب اشكالات هي بحاجة إلى مراجعة وهذا لا ينقص من قيمة الكتاب ولا من قيمة المؤلف ، والدعوة الإسلامية بحاجة دائمة إلى المراجعات بين الفترة والأخرى ، وما جرى في الواقع في هذه الأيام لبعض الحركات الإسلامية يُثبت ذلك .

والمراجعات لا تكون في ثوابت الدين والملة ولكن في فهم النصوص وتطبيقها على الواقع وفي طريقة عرض الإسلام وأساليب الدعوة ، وغير ذلك مما هو رد المسلمين إلى حقيقة الإسلام .

يقول سيد قطب رحمه الله في فصل ( جيل قرآني فريد ) :

” لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية ، كان يشعر أنه بدأ عهدًا جديدًا ، منفصلًا كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية ، كان يقف موقف المستريب الحذر الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام ، كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه ، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله ، فهو قد انفصل نهائيًا من بيئته الجاهلية ، كان هناك انخلاع من البيئةالجاهلية عُرفها وتصورها وعاداتها وروابطها [2].. ” .

هكذا صوّر سيد قطب رحمه الله الشخصية العربية يومها : تنسلخ من كل ماضيها العادات والأعراف والقيم ليصوغه القرآن صياغة مستأنفة ( من الصفر ) وكأنه صفحة بيضاء ، وقد محيت كل ثقافته السابقة .

هل هذا صحيح ؟ هل كل الروابط وكل القيم وكل شيء كان قبل الإسلام ، قبل البعثة المحمدية هو رجس يجب أن تتم المفاصلة التامة معه ؟

الأدلة تقول غير ذلك :

أولًا : القرآن الكريم لا يقطع ما قبله ، أنزله الله سبحانه ليستأنف إتمام الرسالات السماوية ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل ، وهكذا تتصل حلقات التوحيد ” وكل قيمة تمت إلى الحق والخيرهي قيمة معترف بها في نسق الإسلام القيمي ، لا يمنعه في ذلك مانع تاريخي ، لأنه فرع من شجرة التوحيد الأول ، وكل بقية من خير كان عليه الجاهلون ستجد تمامها في الإسلام ، والقرآن الكريم يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه للاعتبار بشهادة التاريخ الذي يقدم القصص القرآني نماذج له ، والغرض العام من القصص القرآني أن يصل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه ومن بعده من المؤمنين بالعمق التاريخي ، قال تعالى : ( ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون[3]) .

والقرآن الكريم يستشهد بعالم من علماء بني اسرائيل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ( ويقول الذين كفروا لست مرسلًا قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب (سورة الرعد 43 ) .

والقرآن الكريم يحتكم إلى العُرف الأخلاقي المعروف بين الناس ، فقوله تعالى : ( يأمرهم بالمعروف ) أي الذي يعرفونه أنه من الفطرة والأخلاق الحسنة .

وفي صحيح مسلم عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت أمورًا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أسلمت على ما أسلفت من خير ” وفي رواية قلت : فوالله لا أدع شيئًا صنعته في الجاهلية إلا فعلت في الإسلام مثله .

قال الإمام النووي : الحديث على ظاهره إذا أسلم الكافر ومات في الإسلام يثاب على ما فعله من الخير .

فالإسلام لا يقطع قيم الخير ولكن الإسلام يضعها في القصد التوحيدي ، أما حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه : ” فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : أبسط يمينك فلأبايعنك فبسط يمينه ، قال : فقبضت يدي ، قال : ” مالك يا عمرو ؟ ” قلت : أردت أن أشترط ، قال : ” تشترط بماذا ؟ ” قلت : أن يغفر لي ، قال : ” أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها .. ) .

وعمرو بن العاص رضي الله عنه كان يسأل أن تغفر له الآثام التي ارتكبها في الجاهلية ، وأما حكيم بن حزام فكان يسأل عن أعمال الخير التي فعلها في الجاهلية وقد أوضح لهما الرسول صلى الله عليه وسلم أن الدخول في الإسلام لا يجبُّ الشر والخير معًا ، وإنما يستصحب الخير والحق قيمًا وعلاقات ويثيب عليه ويبطل الباطل .

وهناك أشياء كانت عند العرب قبل الإسلام وقد أبقاها الإسلام مثل ( القسامة[4] ) وكانت الدية زمن عبد المطلب مئة من الإبل وأبقاها النبي صلى الله عليه وسلم .

وكان عندهم بقية من سنن الفطرة التي أقرها الإسلام .

وعندما تقول السيدة خديجة رضي الله عنها للرسول صلى الله عليه وسلم ( فوالله لا يخزيك الله أبدًا ، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق ” فهذا يدل على أن هذه الصفات كانت موجودة عندهم .

وعندما أسرت ( سفانة ) بنت حاتم الطائي قال الرسول صلى الله عليه وسلم : دعوها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق وأبوها مات قبل الإسلام .

ثانيًا : هل يستطيع الإنسان أن ينسلخ تمامًا من ماضيه ويكون صفحة بيضاء ، وليس لثقافته السابقة أي تأثير ؟ فهذا صحابي جليل كأبي ذر الغفاري يقول لبلال رضي الله عنه : يا ابن السوداء فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر” إنك امرؤ فيك جاهلية ” أي فيك خصلة من خصال الجاهلية ، ومثال آخر : هذه الملاحاة التي وقعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأوس والخزرج وظهرت فيها الحمية القبلية كما في حديث عائشة رضي الله عنها وهي تروي قصة الإفك : ” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوعلى المنبر : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا ، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ، فقام سعد بن معاذ الأنصاري  فقال : أنا أعذرك يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، قالت : فقام سعد بن عبادة وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فتثاور الحيّان حتى هموا أن يقتتلوا ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخفضهم حتى سكتوا ” ( صحيح البخاري ، كتاب التفسير ) .

ثالثًا  : لقد شاءت الإرادة الربانية اختيار هذا الجيل من العرب ليكونوا أصحاب نبيه عليه الصلاة والسلام ، كما قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ” إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه ، فبعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه .. ” .

إنه جيل أقرب للفطرة ورغم وقوعهم في الوثنية إلا أنهم يحملون تراثًا أخلاقيًا نادر المثال وهذه الفضائل البارزة عندهم أحياها الإسلام وحَوّر الأهداف ليربطها بمقاصد التوحيد ، فالشجاعة الموجودة عندهم ـ وهي خلق عظيم ـ زودها القرآن بوجهة محددة ، ولم تفقد بالإسلام ذرة من طاقتها الأصلية ، صارت شجاعة سامية مهذبة ، والحمية والأنفة كانت إلى درجة الغلو فعدلها الإسلام وجعلها الغضب لدين الله ، وكذلك الكرم وغيره من الفضائل ، فكل بقية من خير كان عليه الجاهلون ستجد تمامها في الإسلام .

لقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم حوله أُناسًا يحملون كل صفات الرجولة والمروءة والصدق .

كيف نعلل إسراع أبي بكر رضي الله عنه إلى الإيمان من أول يوم ، لم يتردد ولم يتلعثم ، هل هو ايمان العاطفة فقط أم هو إيمان الذكاء والفطنة والعقل الكبير أيضًا ؟ لا شك أنه كان يفكر في أحوال مكة ووثنية مكة ، والمعروف عنه أنه لم يشرب الخمر في الجاهلية لا هو ولا عثمان رضي الله عنهما ، ثم كيف نعلل إسلام كبار الصحابة على يد أبي بكر : عثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وسعد أليس لأن أصداء القرآن تجاوبت مع شيء مدفون في أعماقهم ، أليس لأنهم وجدوا أنفسهم في هذا الدين ؟

أسلم خالد بن الوليد في السنة السابعة من الهجرة ، وفي السنة الثامنة قاد معركة مؤتة بعد استشهاد القادة الثلاثة وأنقذ المسلمين من مأزق كبير ، إنه عسكري قائد بفطرته ، فهل يترك خبرته العسكرية التي كانت في الجاهلية .

وقبيلته : بنو مخزوم كان اختصاصهم في قريش ( اللواء ) أي الاهتمام بالجانب العسكري ، وشخصية مثل عمر بن الخطاب من بني عدي وكان اختصاصهم في قريش القضاء والفصل في الخصومات ، ومنذ أسلم أعز الله به الإسلام كما في رواية البخاري عن عبد الله بن مسعود .

قال صلى الله عليه وسلم ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) .

وجد العرب في هذا الدين البساطة والوضوح الذي هو من طبيعة حياتهم وما يعرفونه من نفوسهم . شخصيات كبيرة أسلمت وهي قيادية في الجاهلية وهي قيادية في الإسلام .

لماذا يؤكد سيد رحمه الله على مقولته : إن الصحابي عندما يدخل في الإسلام بعد أن كان في جاهلية يتخلص من كل ماضيه ، يبدأ عهدًا جديدًا منفصلًا كل الإنفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية ؟ يؤكد ذلك لأنه ينسجم مع أطروحته التي قارن فيها بين الحركة الإسلامية اليوم وما وقع في السيرة النبوية في بداية الدعوة ، ووجه الشبه : هناك في بداية الدعوة مجتمع جاهلي يخرج منه أفراد يتربون بالقرآن والسنة ثم يتكون مجتمع إسلامي يمهد لبناء دولة .

وكذلك اليوم : المجتمع مجتمع جاهلي ( كما يراه وكأنه لا فرق بينه وبين المجتمع الجاهلي قبل البعثة ) نستخرج منه أفراد ينفصلون نهائيًا عن هذا المجتمع ويؤسسون المجتمع الإسلامي ” المهمة هي نفسها : بناء العقيدة على مهل ولفترة طويلة حتى تتشربها العقول والقلوب ثم المجتمع المسلم الذي يتولى في مرحلة لاحقة بناء الدولة[5] ” وحسب أطروحته هذه يرى إمكانية إخراج جيل كجيل الصحابة ، جيل يتحمل المسؤولية عن إقامة هذا الدين ، بل يتحمل مسؤولية قيادة البشرية الضالة الشاردة الغارقة في الآثام ، بشرط أن يقتصر تلقي هذا الجيل من النبع الصافي وحده : القرآن الكريم والسنة النبوية ، وأن يكون هذا التلقي للتنفيذ العملي وليس للبحث والدراسة والمتاع العقلي ، وأن يعتزل هذا الجيل الجاهلية المحيطة به وسماها ( العزلة الشعورية ) .

يقول مستدلًا أنه يمكن إخراج جيل كجيل الصحابة . ” إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه العملي بين أيدينا كما كانت بين أيدي ذلك الجيل الأول الذي لم يتكرر في التاريخ ، ولم يغب إلا شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهل هذا هو السر ؟ ( أي لماذا لم يتكرر في التاريخ ) لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حتميًا لقيام هذه الدعوة وإيتائها ثمراتها ما جعلها الله دعوة للناس كافة ، وما جعلها آخر رسالة ، ولكن الله سبحانه تكفل بحفظ الذكر وعلم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذن فإن غيبة شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفسر تلك الظاهرة[6] ” .

يقول الدكتورجعفر شيخ إدريس معقّبًا على كلام سيد :” إن مقدمات هذه الحجة لا تؤدي إلى نتيجتها ، فعدم وجود الرسول صلى الله عليه وسلم لاستمرار الدعوة هذا صحيح ولكن النتيجة التي انتهى اليها الكاتب الفاضل ( وإذن فإن غيبة شخص الرسول صلى الله عليه وسلم لا تفسر تلك الظاهرة ) غير صحيحة ، لأن عدم وجود الرسول صلى الله عليه وسلم لاستمرار الدعوة لا يعني عدم ضرورته لوجود جيل كجيل الصحابة ، فالأمران مختلفان ، وهناك نصوص تدل على أن وجود شخص الرسول صلى الله عليه وسلم كان ضروريًا لتخريج ذلك الجيل ، ففي حديث حنظلة الأسدي قال : قلت : نافق حنظلة يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما ذاك ؟ قلت : يا رسول الله نكون عندك ، تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا نراها رأي عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ” ثلاث مرات .

وهذا الذي شعر به حنظلة وأيده أبو بكر رضي الله عنهما شعور طبيعي ، فإن الواحد منا يعرف من تجربته أنه يقرأ كلامًا فلا يتأثر به ، فإذا سمعه من إنسان تأثر به ، فكيف بمؤمن صادق يسمع القرآن والحكمة من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرف الحوادث والمناسبات التي نزلت فيها كثير من آيات الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويرى هذا الرسول ويخالطه ويصحبه ويفهم عنه من غير ترجمان ولا حاجة إلى شروح وتفاسير ، أفيكون حاله كحال إنسان يقرأ القرآن والسنة من الكتب ، الفرق كبير بين جيل شاهد رسول الله صلى الله عليه  وسلم وتربى على يديه ، وجيل لم يره ولا رأى من رآه[7] ” .

وهناك فرق بين رجل الفطرة ( العربي قبل البعثة النبوية ) الذي لم يخضع للطغيان ولم يفسد بأسه ولا انتُقص من استقلال شخصيته ، ولم تفسده المدنيات بمظاهرها الشكلية وفلسفاتها الجدلية .

فإذا جاء الإسلام بالتوحيد الخالص والشرائع والآداب صاغ هذه الشخصية التي دخلت دورة الحضارة الإسلامية فكانت نور على نور . هناك فرق بين هذه الشخصية وبين الإنسان الذي عاش ويعيش في فترة ضعف هذه الحضارة ، هنا قد يكون الفرد ذكيًا ولكن الأخلاق أصابها نوع من العطب ، وقد يكون المسلم نقيًا لا ينقصه الإخلاص ولكنه لا يستطيع مجابهة مشاكله وكيفية حلها ، لقد تعلم وأخذ الشهادات ولكنه لم  يتثقف كي يكون فعالًا[8] .

الخيرية موجودة عند المسلم لم تنقطع ولكن هناك عوامل كثيرة من البيئة التي حوله لها تأثير عليه وهناك متغيرات لها تأثير أيضًا ، فالواجب أن نتدرج بهذه الشخصية إلى الغايات العليا التي نسعى إليها وليس أن نضع صورة مثالية مطلقة ثم لا تتحقق أو تتحقق عند أفراد قلائل ثم يعقب ذلك الانكماش والتجمع الهامشي.

سؤال : قد يستغرب البعض ويتساءل : لماذا نطرح هذا الموضوع الآن ؟ وما الفائدة منه ، والناس قد قرأوا لسيد واستفادوا منه ؟

وأقول : نعم سيد قطب مفكر كبير وصاحب مدرسة أدبية ، والدعوة الإسلامية بحاجة إلى المراجعات بين كل فترة وأخرى ، وهذا من النصيحة وهذا من العدل والإنصاف ،وهذه بعض الأسباب للكتابة حول بعض فصول ( معالم في الطريق)

1 ـ من سنن الله سبحانه أن الأمر العظيم يسبقه تمهيدات ومقدمات ، وقد اختار الله سبحانه لنبيه هذا الجيل من البشر الذي يملك الاستعداد لحمل هذه الرسالة وبعض الكتاب يريدون مدح الإسلام وأنه انقذ العرب من الجهالة والضلالة ولكنه ـ مع هذه النية الحسنة ـ يجرد الشخصية العربية يومها من كل الفضائل ليثبت عظمة الإسلام في بناء الإنسان ولكن الذي لا يملك الاستعداد للأمر العظيم لا أظن أنه سينقلب بين ليلة وضحاها من شخصية ضحلة إلى شخصية رائدة ، ولنتصور أنه لو كان حول محمد صلى الله عليه وسلم أناس كبني اسرائيل الذين قالوا لنبيهم

 ( فاذهب انت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ) ( المائدة 24) لوكان حوله صلى الله عليه وسلم مثل هؤلاء هل سيقام للإسلام دولة ، وهل سينتشر الإسلام في الآفاق .  

2ـ إن دراسة الفترة السابقة للبعثة النبوية ضرورية لمعرفة واقع هذه المجتمعات وهذه القبائل التي ستكون هي أول من سيكلف بهذه الرسالة وحملها إلى العالم ، ومن الملفت للنظر أن ابن اسحاق عندما كتب السيرة قسمها إلى : المبتدأ والمبعث والمغازي ويقصد بالمبتدأ : ما قبل البعثة .

3 ـ أعطى سيد رحمه الله للشباب صورة مثالية وأنهم ـ حسب منهجه ـ هم المجتمع الإسلامي ولو كان عددهم قليلًا ، وهم الطليعة الذين سيقودون البشرية ، كانت تطبيقات بعضهم لهذا التصور وربما حسب ثقافتهم وقدرتهم ـ كانت كما شاهدناها ـ انعزالية استعلائية ، وربما يقال : لقد فهموا كلامه بطريقة خاطئة ، وقد يكون هذا ولكن سيدًا أتى بمفاهيم وعبارات قوية ولكنها مجملة حمّالة أوجه ، ولم يفسرها ولم يوضح معانيها بالتفصيل .

وعندما أراد سيد أن تكون التربية من النبع الصافي قبل أن تختلط الينابيع وتدخل حضارات القدماء وفلسفاتهم وأساطيرهم ولاهوتهم فهذا صحيح  ولكن الصحابة كانوا يتلقون القرآن والسنة مباشرة من الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا حصل أي إشكال كانوا يسألونه ولكن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم صار مع القرآن والسنة مابني عليهما مثل الإجماع  والقياس ثم الإجتهاد لأهل العلم في واقع الدعوة ومقاصد الشريعة  .

4 ـ عندما أصر سيد على هذه الحضانة الفكرية كما كانت في الفترة المكية ، فقد انتقد أي عمل مرحلي يكون خطوة على الطريق ، خطوة يكثر فيها الخير ويقل الشر ، واعتبر ذلك من العوائق لمسيرة الدعوة ، فالكتابة حول الاقتصاد في الإسلام مثلًا أو مزايا الشريعة في القضية الفلانية ، كل هذا لا داعي له ، فهذه المشاكل الموجودة لسنا نحن المسلمين سبب وجودها فلماذا نشغل أنفسنا بإيجاد الحلول لها ، عندما يقوم المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية فسوف يقبل المسلم كل النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأنها كلها من عند الله ، ولذلك فقول سيد رحمه الله ( خذوا الإسلام جملة أودعوه ) هي صحيحة من حيث الاعتقاد الجازم بأن هذه الشريعة هي الحق والاستسلام لهذا الدين ، أما في التطبيق العملي فهو متعلق بالاستطاعة وعدم وجود الموانع القاهرة فلا يقال ( خذوا الإسلام جملة أودعوه ) بل يستفاد من الزمن لقطع المراحل الضرورية .


[1] جعفر شيخ ادريس : نظرات في منهج العمل الإسلامي / 46 .

[2] معالم في الطريق / 19 ـ 20 ط  دار الشروق

[3]  التيجاني عبد القادر : أصول الفكر السياسي في القرآن المكي / 48 ـــ 50

[4] إذا وجد قتيل في قوم بينهم وبين قوم عداوة ـ بين قبيلتين مثلًا ـ فيحلف أولياء الدم خمسين يمينًا على رجل منهم فيستحقون دم صاحبهم قصاصًا أو دية أو يحلف المدعى عليهم خمسين يمينًا للبراءة .

[5] بلال التليدي : مراجعات الإسلاميين / 326 .

[6] المعالم / 14 ـ 15

[7] جعفر شيخ ادريس : نظرات في منهج العمل الإسلامي / 53

[8] محمد العبدة : مالك بن نبي مفكر اجتماعي ورائد إصلاحي / 57

الإعلان

1 thought on “مراجعات مع ( المعالم ) لسيد قطب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s