د. محمد العبدة
يتحدث القرآن عن أناس ناعياً عليهم وموبخاً لهم لأنهم لايتدبرونه ويقفلون عقولهم وقلوبهم عن النظر في آياته ومافيها من الهدى والنور ، وما فيها من خير لسعادة الإنسان ، قال تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) محمد / 24
وقال تعالى : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) ( الإسراء / 9 ) وقد امتن الله سبحانه على العرب والناس أجمعين بأنه أنزل هذا القرآن بلسان عربي مبين، لأن هذه اللغة الشريفة هي من الاتساع والدقة ما يؤهلها لتستوعب المضامين العقدية والأوامر الإلهية ، قال تعالى : ( إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ) يوسف / 2 فهو شرف لمن نزل القرآن بلغتهم وهو مسؤولية أيضاً عليهم أن يحملوها ، ولعل الناس بمجموعهم يعقلون أهمية هذه اللغة لمعرفة مقاصد القرآن لإصلاح البشر .
لاشك أن العرب يوم نزول هذا القرآن كانوا أقرب فطرة وأجود سليقة لفهم الآيات التي تتنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ومراد الله منها . الأصل في ألفاظ القرآن أن تحمل على المعاني الشرعية ابتداء ثم العرفية ثم اللغوية ، فعندما تذكر الصلاة أويذكر الصوم والحج فإنها تحمل على العبادات المعروفة ، وإن كانت الصلاة في اللغة تعني الدعاء ، والصيام يعني الإمساك ، والحج يعني القصد ، إلا إذا كانت هناك قرينة تدل على المعنى اللغوي كقوله تعالى : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم وصل عليهم ) التوبة / 103 ، فالصلاة هنا تعني الدعاء ، والدليل ما جاء في الحديث ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) وكذلك يقال في الجهاد والهجرة فالأصل هو المعنى الشرعي إلا إذا كان السياق يدل على شيء آخر ، مثل قوله تعالى ( وجاهدهم به ) أي بالقرآن والدعوة إلى الإسلام . وبعض المصطلحات يجب أن تحمل على معهود العرب من الخطاب ، فقوله تعالى ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) لايعني حل شحم الخنزير كما توهم بعض الناس ، لأن اللحم إذا أطلق في اللغة فإنه يشمل الشحم أيضاً ، ومثال آخر : وهو أن العرب تقول : أحبك ما تعاقب الليل والنهار أي أبداً ، فقوله تعالى ( خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ) تعني الخلود الدائم أي التأبيد ،فلا يعني إذا زالت السماوات والأرض أن ليس هناك خلود ، بل هو التأبيد حسب لغة العرب ، ولا تفسر بعض الكلمات في القرآن على المصطلحات الحادثة ، فالقرية تأتي في القرآن بمعنى المدينة ولكنها اليوم تعني البلدة الصغيرة ، والصدقة في القرآن تعني الزكاة وأحياناً صدقة التطوع ، ولكنها في العرف الفقهي تعني صدقة التطوع فقط ، والولي في القرآن يعني الناصر والمساعد والمقرَب والمحب ولكنها في عرف الصوفية تعني صنفاً من الناس يعتقدون بظهور الخوارق على أيديهم وليس هذا مقصد القرآن .
ومن أساليب القرآن أنه يذكر شيئاً ولا يذكر المقابل له لوضوحه من خلال السياق ، فقوله تعالى ( وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر ) ولم يذكر البرد وذلك للعلم به من باب التنبيه ، فإذا امتن على العباد بما يقي الحر فما يقي البرد أعظم ، وهذا كما جاء في الحديث ( من اغبرت قدماه في سبيل الله ) يقال : فالوحل والثلج أعظم ( 1 ) .
وقد تفهم الآية من خلال ما يسمى مفهوم المخالفة كقوله تعالى ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) البقرة /2 أي أن غير المتقين ليس هدى لهم كما صرح بذلك في آيات أخر ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمىً ) فصلت / 44 وقوله ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولايزيد الظالمين إلا خسارا ) الإسراء / 82 والخسار هو الهلاك ،فالقرآن يوفر للإنسان ما يؤدي إلى نقيض الكفر ، والظالم هو الذي يسمع القرآن ومع ذلك يستمر في كفره ، وإذا كان الكفر خسارة فإن الاطلاع على القرآن مع الإصرار على الكفر يزيد تلك الخسارة ، والمقصود بالهدى هنا هو الهدى الخاص الذي هو التوفيق للإنسان لاتباع دين الحق ، وليس الهدى العام الذي هو ايضاح الحق ، فهذا مبذول لكل الناس كما قال تعالى ( فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) فصلت / 17 أي بينا لهم طريق الهدى وطريق الضلال فاختاروا طريق الضلال .
وقد تأتي الكلمة في القرآن إلى جانب كلمة أخرى كأنها معها وهي غير متصلة بها ، ومن لم ينعم النظر يحسب أن جزأي الكلام متصلان لفظاً ومعنى لشدة الانسجام بينهما ، قال تعالى : ( قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ) هذا من كلام امرأة العزيز ثم أتى بعده ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ) وهذا من كلام يوسف عليه السلام . وكذلك قوله تعالى حاكياً قول ملكة سبأ ( قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ) هذا من كلام ملكة سبأ ثم تتمة الآية ( وكذلك يفعلون ) وهذا قول الله تعالى .
وقد تأتي إرشادات القرآن معتبرة الأعراف القائمة بين الناس ، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي : ” إن القرآن يجري في إرشاداته مع الزمان والمكان والأحوال الراجعة للعرف ، فإن الله أمر عباده بالمعروف وهو ما عرف حسنه شرعاً وعقلاً وعرفاً ، ونهاهم عن المنكر وهو ما ظهر قبحه شرعاً وعقلاً وعرفاً ، وأمر بالإحسان إلى الوالدين ولم يعين لعباده نوعاً خاصاً من الإحسان ليعم كل ما تجدد من الأوصاف ، وكذلك قوله تعالى ( وعاشروهن بالمعروف ) أي العرف المعتاد عند الناس في كل بلد وحسب أحوالهم المعيشية ، وقال تعالى ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) الأعراف / 31 ، وقال : ( يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ) الأعراف / 26 فقد أباح لعباده الأكل والشرب واللباس ولم يعين شيئاً من الطعام والشراب واللباس ، وهو يعلم أن هذه الأمور تختلف باختلاف الأزمان والأمكنة ، فتتعلق بها الإباحة حيث كانت ، وكذلك قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) فهذا يتناول كل قوة وفي كل وقت حسب ما يليق به ” ( 2 ) .
- انظر : ابن تيمية ، الفتاوى قسم التفسير 15 / 218
- القواعد الحسان لتفسير القرآن / 73