د . محمد العبدة
عندما أنهيت قراءة هذا الكتاب ، كان واضحا أننا أمام زعيم سياسي امتلك أدوات الزعامة و الرئاسة ، و أتحدث هنا عن شخصية قائد ولا أتحدث عن حزب العدالة و التنمية ، وما هي برامجه ؟ وهل هو حزب إسلامي أم وطني ؟ و هل حقق أهدافه أم لا ، و هل عنده برامج لم يحققها …
ولا أتحدث عن أفكار أردغان التي قد نوافقه عليها أو نخالفه ، و الحديث في السياسة و الزعامة كثر هذه الأيام بعد الثورات العربية ، و كثر الحديث عن (الحرية) و (الديموقراطية) و (والدولة و مسؤولياتها) وجاء هذا الكتاب في وقته ليتحدث عن زعيم كان مسؤولا عن شعبة استانبول في حزب الرفاه الذي يقوده نجم الدين أربكان ، واستطاع أردغان من خلال هذه الشعبة أن يصل إلى رئاسة بلدية استانبول و حاول أن يقود الحزب كله بطريقة جديدة ولكن (أربكان) كان له رأي آخر .
من خلال الكتاب تظهر الصفات القيادية لأردغان ، من خلال طريقة إدارته و من خلال نظرته المستقبلية ، وصلته بالمقربين منه ، و نشاطه و دأبه و أخلاقه . و من هذه الصفات :
1 – هو دائم المشورة مع فريقه الذي يعمل معه و لا ينفرد بالرأي . فهو دائما يعمل مع فريقه أو يكلف لجنة لدراسة مشروع ما .
يقول أحد زملائه : “كان أردغان يحدثنا عن تطهير مياه خليج البوسفور بالفلاتر و أجهزة التقنية ، وكنا نتعجب من قوله ، ثم عرفنا أنه شكل مجموعة أكاديمية لدراسة عدد من مشكلات استانبول (هذا قبل أن يصبح رئيسا للبلدية) هي لجان متخصصة لدراسة احتياجات المدينة و مشاكلها ، مشكلة المياه و البيوت العشوائية و الصرف الصحي … إلخ
2 – هو دائب النشاط و العمل ، يتصل بالناس و يزورهم و يجلس معهم متحدثا ، ويأكل معهم خاصة على مائدة الإفطار في رمضان ومع الأسر الفقيرة خاصة و عندما رأى الفقر الشديد في أحد الأحياءوكان مقررا أن يتم هدم هذا الحي تراجع إشفاقا على هؤلاء المساكين . وهو لا ينسى أبداً أصدقاءه و الذين ساعدوه ، يعرفهم و يكلفهم حسب ما يتقنون ، وعندما قال له أحدهم : إذا أصبحت رئيساً للوزراء فلن أراك ، ولكن أردغان عندما أصبح رئيسا للوزراء لمحه من بين الناس و ناداه ليجلس معه .
3 – يمتلك عقلا سياسيا يدرك أبعاد الأمور ، فعندما تحالف حزب الرفاه (وهو حزبه) في انتخابات 1991 مع حزب (الجبهة القومية) وحزب (الإصلاحيين الديمقراطيين) انزعجت شعبة استانبول برئاسته من هذا القرار ، لأن حزب الرفاه يمتلك من الشعبية التي لا يحتاج فيها للاتفاق مع هذه الأحزاب التي لا تزيد الرفاه إلا انتقاصا من مكانته .[1]
4 – لا يهتم بالشائعات و الدعايات المضادة فبعد انتخابه رئيساً لبلدية استانبول بدأت الصحف تشن حربا إعلامية عليه و تنشر الشائعات و الأكاذيب حول مشروعاته و طموحاته ، فقال لفريق العمل معه: هل سنعمل أم سنسمع الشائعات ؟! ، من أهدر وقته في الاستماع للشائعات فسيظل مكانه ، أما نحن فسنعمل : ستنساب في الصنابير المياه النظيفة .. لن يتنفس أهالي استانبول السموم .. لن تتسبب المواصلات في إتلاف الحالة المعنوية للمواطنين ، ستنجو الآثار التاريخية و الثقافية من أعمال السلب و النهب .
ولكن الحملة ضده لم تتوقف وبعد أربع سنوات من خدمة مدينة استانبول أبعد عن منصبه و أودع السجن ، وفي السجن كانت تأتيه آلاف الرسائل تؤيده و تتعاطف معه ، وكان يرد عليها جميعا و بخط يده .
5 – كانت المناقشات في شعبة الحزب في استانبول صريحة وفيها نقد إيجابي و لا أحد يمنعهم ، يقول أحدهم ” أسمع أن مرشحا من مرشحينا قام بزيارة للبطركية و بابواتها ، غير أنني لم أسمع قط أنه زار مفتي استانبول “
ويقول آخر ” بينما يرى بعض الأخوة أن إخواننا من ذوي اللحى و السراويل يمثلون عائقا أمام الدعوة ، نراهم لا يرون حرجا في معانقة أحد المخمورين و المبالغة في ذلك ، وفي بلديات (باي أوغلو) ترتدي الفتيات جيبات خليعة ، لماذا نشعر بالخوف بينما يموت يساريون من أجل مبادئهم ؟! [2]
6 – القائد يحترم إخوانه و زملاءه و لا يتدخل في كل صغيرة و كبيرة ، ويترك لهم مجالا للتحرك و لإظهار جهودهم ، بعد نجاح حزب العدالة و التنمية في انتخابات 2002 كلف عبدالله غول بتشكيل الحكومة ، ورغم أن أردغان هو رئيس الحزب و لكنه كان ممنوعا من الترشح لمجلس الشعب ، وبعد أن استلم عبدالله غول التكليف من رئيس الجمهورية اتجه نحو مقر الحزب “وكان أردغان جالسا بمفرده في مكتبه باديا عليه الضيق قال له مساعده : هل هناك ما يضايقك؟ قال لا ولكن لم تسمح الفرصة للتحدث مع السيد عبدالله بصراحة ، وهو الآن عاكف على تشكيل الوزارة و هناك اسمان لا أجد انهما مناسبين ، قلت له : يمكنك أن تقول ذلك بنفسك ، قال لا ليس مناسبا الآن طالما هو (عبدالله غول) لم يسأل ، فليس من المناسب أن أقول له شيئا على هذا النحو حتى لا يظن أنه تدخل مني في الأمر ،فالأمر أمره ، قلت لو تسمح لي أن أبلغه عن هذين الاسمين ، قال بعد تردد : فليكن”
إنها أخلاق عالية و علاقات أخوة و صداقة عالية ، هو رئيس الحزب و بإمكانه أن يأمر عبدالله غول بشطب هذين الاسمين ، و هذه الأخلاق هي التي تجعله شديد الاحترام لرئيسه (أربكان)فهولا يناديه إلا (يا أستاذي) رغم الخلاف في وجهات النظر و الإفتراق .
- § قصة الحزب الجديد
في السجن بدأ أردغان يفكر في إنشاء حزب جديد ، فمن الواضح أن هناك خلافا مع القيادة في (أنقرة) و مع ذلك فإن أردغان كان على الاستعداد لقيادة حزب يخرج من رحم حزب الرفاه ، و قد جرى استطلاع حول من يقود هذا الحزب الجديد فكانت النتيجة في صالح أردغان ، ولكن الأستاذ أربكان كان رأيه أن يتولى الحزب الجديد الأستاذ (رجائي) . يعلق أحدهم على هذا الاختيار ” كان أربكان وقتها يبحث عن شخص تابع ينفذ ما يأمره به أكثر من شخص ينمّي الكيان الجديد ويطوره ” و نحن هنا ننقل وجهة نظر مؤلف الكتاب و لم نسمع وجهة النظر الأخرى وجهة نظر (أربكان) ومن معه ، و لكن ما يذكرانه عن أربكان رحمه الله نراه و نسمعه من زعماء في الجماعات الإسلامية في البلاد العربية ، فهناك تشابه ربما يساعد على تصديق هذه الرواية ، يقول أحدهم ” كان أستاذنا أربكان قائدا من دون قيادة حقيقية للحزب ، كان يريد من الشباب أن يظلوا (شباباً) وفضل أن يبقيهم بعيداً عن اتخاذ القرار ، حينما يقول أربكان في الاجتماعات : ليعبّر الجميع عن وجهات نظرهم فإن ذلك له ثلاثة تفسيرات : الأول أن يكون الشخص الذي سيتحدث يعلم وجهة نظر أربكان أو يتوقها و يعبر عنها ، الثاني أن يتحدث الشخص بعد أربكان و يكرر ما قاله في حديثه بصورة أخرى ، وأما الثالث : ألا يتكلم الشخص نهائياً “
وفي جلسة مطولة عرض أحد المقربين من أردغان على الأستاذ أربكان أن يكون موجها و مرشدا لهم و يترك لهم الأمور السياسية ، فقال له أربكان : هذا ليس من سياستنا .
لهذه الأسباب و لأسباب أخرى هي في عمق التحرك السياسي و الاجتماعي أنشئ حزب العدالة و التنمية .
كان أردغان واضحا في تحديد أهدافه التي يريد تحقيقها ، فهو يقول : ” نريد أن نصل بوطننا و أمتنا في مجالات الاقتصاد و الصحة و التعليم و حقوق الإنسان و التكنولوجيا و الدفاع و العلاقات الدولية بما يتناسب مع المرحلة التي نعيشها و بما يليق بها “
لا شك أن أردغان حقق كثير من هذه الأهداف برئاسته للوزارة أكثر من مرة ولكن هل يستطيع إبقاء تركيا موحدة قوية وهو يرى أن يتاح للتعدية تقوية نفسها بنفسها ، وكلما عبرت الهويات عن نفسها كلما أدى ذلك إلى إمكانية الحوار ، ولكن ألا يخشى أن تكون التعددية الدينية و الإثنية مسرحا لمشاريع فئوية صغيرة ، و تكون الديمقراطية الرخوة سببا في ذلك و يبقى السؤال هل بعد تحقيق هذه الأهداف التي هي لخدمة الأمة أهداف أخرى ؟
1 – يذكرنا هذا ببعض الأحزاب الإسلامية التي لا تدرك أهميتها و التفاف الناس حولها
2 – أليست هذه الهزيمة النفسية موجودة حتى الآن بين صفوف بعض الإسلاميين ؟!