العولمة  والهوية

د.محمد العبدة

لا نبالغ إذا قلنا أن أحد أسباب ضعف الأمة الإسلامية في العصور الأخيرة هو هذا الصراع الخفي والمعلن، والدائب الذي لم ينقطع، بل اشتد أواره في هذه الأيام، هذا الصراع بين تيارين رئيسيين تيار التغريب والليبرالية العلمانية، وتيار التشبث بالهوية الحضارية الإسلامية . ليكون للأمة وجهة توليها وبوصلة ترشدها وأهداف تسعى إليها وتعمل لها ،الواقع الان هو أن القيم متضاربة والمرجعيات مختلفة والثقافة غير متجانسة، وهذا الذي أوجد هذه العزلة وهذه الهوة بين من رفع شعارات الوطنية والليبرالية العلمانية وبين جمهور الأمة التي تحتفظ بعقيدتها وثقافتها مما أدى إلى إعاقة كل مقترح للنهضة، ولم تحصد الشعوب إلا التخلف والضعف، بل أصبح الرأي العام مشوشاً نتيجة هذا الانقسام في حياتنا .إن أي إقلاع حضاري لا يتم إلا إذا اجتمعت القلوب على شيء كبير، شيء سام فوق العصبيات والعرقيات، الدين هو الذي يجمع الشتات بأقوى الروابط، وهو المؤسس الذي يرضى به الجميع أو ترضى به الأكثرية، لأنه تجمع على الجانب الذي به كان الإنسان إنساناً، ولا مجال لتصور الإنسان دون إيمان، فماذا تكون هوية الإنسان في البلاد التي غالبية سكانها مسلمون؟ وعندما نتحدث عن الهوية فإنما نعني شيئا ثابتا دائما مهما تغيرت الظروف أو تقدمت العلوم.

الدين شيء أساسي في حياة البشر، هو الذي يكون شخصية الإنسان فيصبح له رؤية واضحة في القضايا المطروحة،وله رأيه في النظام الدولي وما يسمى ( العدالة الدولية )  وله رسالة يحملها وبالتالي له دور ايجابي في تقدم البشرية نحو الأفضل ،لا يمكن للإنسان أن ينظر للآخرين نظرة قيمية إلا إذا كان صاحب رؤية وهوية ، الإنسانية اليوم معطوبة من طول الاغتراب وعدم الاكتراث بالخير والعدل، وعندما يتحصن المسلم بهويته يتكون عنده القدرة على الاختيار المناسب، فهو لا يرفض كل ما عند الآخر إذا كان صحيحا ومفيدا ولكنه يختار. والمسلم يعلم أن هذا الدين ليس منحصرا في المسجد أو في قانون الأحوال الشخصية، لأنه يقرأ القرآن كل يوم وهو يرى توجيهات القرآن التي تغطي مناحي الحياة السياسية والاقتصادية الاجتماعية.

هل يمكن تجاهل قضايا مثل المنشأ والمصير والغايات، إن تجاهل مثل هذه الأمور لا يفرز إلا رؤوسا فارغة ليس لها هم إلا الاستهلاك والحرص على الحياة أي حياة ولو كانت تافهة.

في الغرب يعلمون أثر الدين في حياة الانسان وأنهم بحاجة إليه كما يذكر المؤرخ الأمريكي ( ول ديورانت ) 1ولكن الليبراليين عندنا والعلمانيين يريدون إزاحة الدين بالكلية من حياة الإنسان ، تقول وزيرة الخارجية الأمريكية سابقاً ( اولبرايت ) في كتابها الجبروت والجبار : ” فالدين جزء كبير مما يحفز الناس ويشكل آراءهم في السلوك العادل والصحيح ” ( 2 ) وفي بريطانيا الملكة هي رئيسة الكنيسة وفي هولندا أن يكون الملك بروتستنتيا  شرط رسمي (3)، وفي البرتغال ينص الدستور على أن الكاثولكية هي دين الأمة وأسبانيا تسمح بوجود مرشدين روحيين في الثكنات العسكرية والمستشفيات والسجون . يقول وولتر رسل ميد في مجلة الشؤون الخارجية : ” إن الدين يلعب عادة دورا رئيسياً في السياسة والهوية والثقافة الأمريكية ، فالدين يشكل شخصية الأمة ويساعدها في تشكيل أفكار الأمريكيين عن العالم ” ( 4) وتضم المؤسسة العسكرية الأمريكية 3000 من المرشدين الروحيين حسب تعبيرهم ،والمحافظون الجدد في الحزب الجمهوري لهم وجهة دينية  وفي الكيان الصهيوني يوجد ما يعرف بمعاهد تكريس الهوية اليهودية وهي معاهد تابعة لوزارة التعليم الرسمية (5 ) فالغرب لم يتخل عن الدين بالكلية كما يدعي الليبراليون أو كما يتوهمون أو يتجاهلون ، ولكن الغرب غلب مصالحه الدنيوية إذا تعارضت مع أسس الدين أو الأخلاق .

جاء في صحيح البخاري أن اليهود قالت لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ” إنكم تقرأون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً ” يعنون قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) فإذا كانت أمة من المناوئين للإسلام حاسدين لأهله قد قالوا في آية واحدة لاتخذناها عيداً فكيف يكون الأمر إذا نظرنا إلى القرآن العظيم كله

هناك تجارب حديثة توضح لنا كيف أن أمة من الأمم أخذت بالتقدم العلمي ولكنها لم تنسلخ عن هويتها وعاداتها وتقاليدها ، ألم تحزم اليابان أمرها وتحدد هدفها وتنقل التقنية الغربية وذلك عندما هددت في القرن التاسع عشر بضرورة فتح التجارة مع أمريكا ، لقد تصرفوا بلباقة وعلموا أنه لابد من تعلم التقنية الغربية ، لقد تأوربت اليابان كي تبقى أكثر يابانية كما يقول الكاتب ( فلسيان شاللي ) ( 6 )  ويرى ( لي كوان يو ) رئيس سنغافورة سابقاً أنه يجب تطوير صيغة غير الصيغة الغربية للديمقراطية ، ومع الأسف لم تتكرر تجربة اليابان في العالم الإسلامي ، يستثنى من ذلك ما قامت به ماليزيا وما تقوم به تركيا اليوم رغم صعوبة الأمر .

إن من المفاهيم التي تؤسس للهوية والتي ركز عليها القرآن كثيرا مفهوم (الأمة )وهو مفهوم عقدي سياسي قد لايوجد له نظير عند الأمم الأخرى ، والذي يعني الوحدة في المصدر والوحدة في الاتجاه ، وهو مغاير تماماً لمفاهيم الوطنية الضيقة أو القومية أو أي تجمع على أساس جغرافي أواقتصادي ، الوطن الإسلامي الأول الذي تكون في المدينة استمد حقيقته من كيان الأمة ، لا أن الأمة تستمد حقيقتها من الوطن وحدوده الترابية ، حتى لو وجدت وحدات سياسية منفصلة ولكن الفرد المسلم يشعر بالانتماء إلى الأمة ، وهذا يعطيه شعوراً بالأمن ، وجدت داخل الحضارة الإسلامية انتماءات عرقية وديانات أخرى ولكنها عاشت تحت مظلة هذه الحضارة لأنها حضارة مستوعبة وفيها عدل ورحمة ، وعندما تزعزعت المؤسسة السياسية بقي مفهوم الأمة قوياً وحفظ كيان المسلمين .

إن الغرب وإن رفع شعارات مثل حقوق الإنسان ونشر قيم الحرية والديمقراطية ولكن النظام الرأسمالي هو المهيمن ، وهوية هذا النظام هي ( العولمة ) والمؤسسات الكبرى التي نتجت عنها ( البنك الدولي ، منظمة التجارة العالمية ، الشركات العملاقة عابرة الحدود والقارات ) وخطورة هذه الهوية الرأسمالية أنها تدعي الإنسانية في أهدافها وأعمالها ، وفي حقيقتها مالية ثقافية ،وفي جانب منها دينية .

العولمة مرحلة من مراحل الرأسمالية الليبرالية ، وهي تعني التمدد نحو العالم ، أي إعادة تشكيل العالم وفق النموذج الغربي كما تقول الباحثة ( حنة أرنت ) وكأنهم يريدون أن يتنفس العالم برئة واحدة وينظر بعين واحدة ، وهو شيء مخالف لطبيعة البشر ولسنن الله في اختلاف الخلق ، ينظر المسلم إلى العالم بأنه ينقسم إلى عالمين : عالم الإسلام وعالم غير المسلمين ، أو أمة الإجابة وأمة الدعوة ، والعولمة تريد فرض قانون واحد وكأن ليس للمسلمين دور في هذا العالم .

أطلق مصطلح العولمة في البداية لما رأوا أن الإعلام حول العالم إلى قرية كونية ، ولكنه وجد مجاله الأول في الاقتصاد ، ثم جاء محمولاً على أعناق وأكتاف ثورة الاتصالات ، واكتسحت الشركات الكبرى الدول والحدود ، وسجلت نفسها خارج السواحل للتهرب من الضرائب ،وأصبح مدراء الشركات هم رؤساء العالم ، وظهرت فكرة الليبرالية التي تنادي بتقليص نشاط الدولة في مساعدة الأفراد والمجتمع وانتهاء دولة الرفاه ، وأن هذا العصر هو عصر ( السوق ) وساعدت التقنية الحديثة في ربط فروع هذه الشركات مهما كانت متباعدة ،وأصبح السريع يلتهم البطيء وكان في السابق الكبير يلتهم الصغير .

ولكي تستمر هذه الرأسمالية المتفوقة أو المتوحشة لابد من مستهلكين ، ولابد من إشاعة ثقافة الاستهلاك في كل الأرض ، وإذا استعصت بعض الشعوب على ذلك فلابد من تغيير ثقافتها وفكرها أيضاً ، فهذه العولمة ليست قوانين تجارية وحسب ، بل قيم معينة تطبق على تركيب مجتمع ، وكلمة السر هنا هي التسويق marketing  كل شيء قابل للتسويق ، وما هي إلا أن يقول الإعلام أن هذا الشيء ضروري من ضروريات الحياة حتى يبادر المستهلك إلى الشراء ، لقد أصبح الإنسان محكوماً من الأشياء التي صنعتها يداه( 7 ) إنها وثنية جديدة ، وبواسطة الإعلام ( كلب الحراسة للرأسمالية ) يتطور الاستهلاك ليصبح مفروضاً على الإنسان ، ليأكل أكثر ويتبضع أكثر ويتملك أكثر ، يكدس المشتريات وإن لم يستعمل الكثير منها ، هناك أطراف تملي المواقف وأطراف تستقبل وتذعن . وبسبب ضخامة النظام الصناعي ( شركات ، سوبرماركات ) فقد أصبح كثير من الناس موظفين وبالتالي هم تابعون لرؤسائهم ، هم لم يبيعوا قوة عملهم فقط بل باعوا شخصياتهم ( ابتساماتهم ، أذواقهم ، صداقاتهم ) خوفاً من الفصل من أعمالهم .

بواسطة العولمة فإن البنك الدولي يغير النمط الثقافي للمجتمع ، ففي بلاد مثل مصر أو الهند تتغير القوانين طلباً للاستثمار ، والبنك الدولي يقدم قرضاً لدولة من دول الطغيان فيتصرف الحاكم وأسرته في تبديد هذا القرض وحين يأتي موعد دفع الديون لايقول الحاكم أنه اشترى عمارات وسيارات وأودع الباقي في بنوك سويسرا ، ولذلك توزع مسؤولية الدين على أفراد الشعب عن طريق تقليص الانفاق العام وتقليص دعم السلع الأساسية ، وكأن الوطن أصبح برسم البيع . واستغلت العولمة الأمم المتحدة لتتدخل في خصوصيات المجتمعات الأخرى ، ففي مؤتمر عن المرأة عام 2000 تم إضفاء الصفة القانونية على الانحطاط الاخلاقي وترجم مصطلح feminism بالأنثوية وهذا لا يعني شيئاً فالأنثى انثى  والمعنى الحقيقي هو فصلها عن الرجال وتأكيد هويتها الفردية على حساب هويتها الاجتماعية كزوجة وأم وبنت . والليبرالية الجديدة تبحث عن مفهوم جديد لسلطة الوالدين ، أي عن إضعاف هذه السلطة لأنها بنظرهم من معاقل النظام الديني . وعندما تأتي الشركات الكبرى إلى بلد ما فإنها تأتي أيضاً بأنماط ثقافية معينة ( هدايا الكرسمس ، هالوين دي ، حمامات سباحة مختلطة …. )

إن العولمة بتغليبها الجانب الدنيوي أدت إلى الاستلاب والاغتراب ، لأن جيل الشباب الذي لا يجد في الجامعات نهمه إلى الثقافة وإلى الدين الذي يلائم فطرته ،سيدفعه ذلك إلى صرعات وثنية أو الحيرة والضياع . وفي العولمة أصبح الترف مقبولاً في أكثر المجتمعات حيث تحولت هذه المجتمعات إلى عبادة المظاهر والأشياء المادية  ، ومن الغريب أن العولمة وهي تدعو إلى توحد العالم تحت سياق معين ولكنها في الوقت نفسه تحاول تفتيت المجتمعات ، فهي تنادي بدعم جماعة دينية صغيرة بحجة أنها أقلية ، وجماعة عرقية صغيرة بأنها أقلية وهكذا الشواذ جنسيا ً أقلية .

قد يقال : إن هذه العولمة تعزز الهوية عند الشعوب التي تتسلح وتعتز بدينها وثقافتها ، لأنها ترى أنها مستهدفة فترجع إلى تراثها لتصمد أمام هذه الموجة وأيضاً فإن ثورة الاتصالات وسهولتها مما قرب بين أبناء البلد الواحد وأبناء الدين الواحد رغم بعد المسافات فيما بينهم . هذا صحيح ولكن المشكلة والتخوف أن تكون ردة الفعل تجاه العولمة متشنجة ولا تستطيع أن تتعامل مع الواقع بطريقة صحيحة ، ولا تمتلك مبادرة للبديل المناسب ، والمفروض أن يكون البديل جاهزا ، فالإسلام بطبيعته عالمي يقدم الخير للبشرية ويستفيد من العلم النافع ، وهناك فرق بين الثقافة والعلم ( الطبيعي ) فالثقافات تتعدد  والعلم مشاع بين البشر ، والمسلم لا يقف حائراً أمام أي جديد ولكنه يختار ما فيه نفع

“لن يتأثر المسلمون بغرب يرونه مبشراً بقيم استهلاكية وفضائل لا أخلاقية وبركات الإلحاد ” كما يقول مستشار الأمن القومي الأمريكي سابقاً ( برجينسكي ) ( 8 ) وعقلاء الغرب يدركون هذه الحقيقة ، يقول ( آلان تورين ) عن الذين يطلبون من المغتربين الاندماج والذوبان في المجتمع الغربي : ” ليس موقفاً ديمقراطياً أن يقال للمغتربين تجردوا من ثقافتكم وادخلوا عراة إلى عالم جديد ، إنها صفاقة واحتقار للثقافات والخبرات المغايرة لخبراتنا ” ( 9 )

لقد فشلت كل المشاريع التغريبية خلال القرن الماضي ولم تحقق أي إنجاز يذكر ، والدول العربية مثال صارخ على ذلك ، ما زال الجدل قائماً حول الهوية  ، بل تجذرت الخصوصيات الوطنية ، حتى أصبحت معتقداً للإنسان العادي فضلاً عن المثقفين ،وبولغ في العادات والخصائص المحلية حتى أصبحت كل قرية لها عاداتها ، وتغذي هذا المفهوم الضيق السياسات التعليمية والإعلامية ، وهذا نكوص وتراجع للوراء ، وحتى تحقق الدولة نموذجها الوطني الليبرالي لابد أن تحطم بناء الأمة ، وهذا الذي أدى وسوف يؤدي إلى الفشل والتراجع .

لم تنجح العولمة بل قسمت العالم إلى فقراء فاقدين للأمل وأغنياء صم الآذان ، وجعلت الأجيال القادمة ترث أرضاً قاحلة ، وبعض الدول الرأسمالية عندما وجدت آثار العولمة راحت تسن القوانين التي تصب في مصلحتها .

إن التغيير يكون بالتجديد من الداخل وليس بالتنازل عن الهوية ، وهذه الهوية لا يمكن العدول عنها ولا عن جزء منها لأنها الإسلام ،القرآن هو الذي أعطانا الهوية (هو  سماكم المسلمين من قبل )، ونحن حين نتحدث عن الإسلام نرفض التفريط والتبسيط تحت شعارات تطالب بالتنازل عن الأصول والتخلي عن المعقول في سبيل إرضاء أطراف تجس نبض المسلمين ، وحتى يصل الأمر إلى الأذية في الدين ، ولأن فصل المسلمين عن دينهم هو مناصرة للعدو الأجنبي .

الكتلة الكبرى هي التي تستطيع أن تناور في مثل هذه الأجواء الخطرة ،فالعولمة إذا تركت فإنها سوف تؤثر على كل الخصوصيات ،كتلة العالم الإسلامي ( من طنجة إلى جاكرتا ) كما يعبر المفكر الجزائري مالك بن نبي ، تناور من خلال تنمية النظام التعليمي لتكون قادرة على الاستجابة للمتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية ، من خلال نظام معرفي أكاديمي مشترك ، ولعل إشاعة اللغة العربية يكون شيئاً مهماً لتقابل عولمة الإنكليزية ، وفي تركيا بداية طيبة لتعليم اللغة العثمانية وهي بالأحرف العربية ، لتتمكن الأجيال الجديدة من قراءة تاريخها ، فاستعادة تاريخنا الحضاري خاصة مما يعطي الشباب الثقة والانتماء .

الكتلة الكبرى هي التي تستطيع البحث عن الأحلاف الممكنة ، وهي التي تخطط لصيانة الهوية دون انغلاق يؤدي إلى مزيد من التدهور ، وهي التي تملك القدرة على الاستقلال الاقتصادي وهو شيء مهم لصيانة الهوية .

الإسلام هو المستعد للمنازلة ثقافياً وحضارياً ، لأنه الوحيد الذي يملك رؤية واضحة لدور الإنسان ونظرته للكون والحياة ، ونظرته للعام ووسائل العلم ،

الملل والمذاهب والشعوب الأخرى لا تستطيع مقاومة الثقافة الغربية التي تكتسح العالم اليوم ، وهذا أحد أسباب الخوف من الإسلام وأحد أسباب اهتمام العولمة الثقافية بالعالم الإسلامي خاصة .

  • دروس التاريخ / 103
  • الجبروت والجبار / 242
  • ايليا حريق : الديمقراطية وتحديات الحداثة / 258
  • الهيثم زعفان : مكانة المتدين في أمريكا واسرائيل / 44
  • المصدر السابق / 68
  • ساطع الحصري : ابحاث في القومية / 436
  • أريك فروم : الإنسان المستلب / 17
  • برجنسكي : الفوضى / 182
  • آلان تورين : ماهي الديمقراطية  / 187 .
الإعلان

الثورة السورية : عقابيلها، التحديات والتجربة التاريخية

د. محمد العبدة

الثورة السورية المباركة في سنتها الرابعة ، وهذا يدل على صمودها وقوتها وأقول: المباركة لأنها كشفت عن مستور المشروع الباطني في المنطقة ، كما كشفت عن نوع الخراب الداخلي في المجتمع الذي عشش فيه وفرخ طوال خمسة عقود.خراب النفوس المريضة التي ألفت الاستبداد وتعايشت معه ، كما وقعت أخطاء لابد من تداركها، وأظن أنه لم يفت الوقت بعد  للقيام بالمراجعات المطلوبة، لأن الثورة حين تخشى أخطاءها فهي ليست بثورة وإذا اكتشفت أخطاءها ثم التفتت عنها ولم تصلحها فالأمر أدهى وأمر، فإنه لا يكفي لربان السفينة أن يقلع بسفينته في اتجاه معين، بل يجب عليه أن يراقب السير على طول الطريق من أجل تعديل الاتجاه من حين لآخر. بعد أربع سنوات وضحت الصورة أمام الجميع ، من المخلص والجاد للقيام بالتغيير والدفع بالثورة لغاياتها ومن يريد الاستفادة من الثورة لمصالحه الخاصة .

قامت الثورة بشكل عفوي وبهمة عظيمة وروح قوية، ولكن الثورات لا يستقيم أمرها دون قيادة ودون معرفة الغايات والمعوقات ومعرفة العقابيل التي تكتنفها والحذر والانتباه لها ودون معرفة واقع العدو وقدراته وإمكاناته والثورة إذا طال أمدها ولم يضبط أمرها تصبح كالمطيّة تسوق من يركبها ولا يسوقها، وتختلط الأعمال والتبعات ويفلت الزمام من الأيدي، فلا يدرى من القابض عليه، ومن هو المتخلي عنه.والواقع الآن أن الدول الإقليمية والدولية هي التي تقرر مصير السوريين وهذا غير مقبول ، وإذا لم يضبط أمر القتال وحمل السلاح فإن قوى خفية تستيقظ في النفوس الضعيفة وتعود إلى حالة من الهمجية في القتل، وينتهي الأمر إلى القضاء على مثالية الثورة وأهدافها وعندما يطول أمد الثورة ولا يكون هناك مراجعات وتخطيط ووضوح فقد يشعر الناس بالإجهاد ويصابون باللامبالاة، وقد يستسلمون لأي شيء قادم ولو كان تافها، ويرضون بالقليل القليل. وفي التاريخ الحديث وبعد فشل ثورة أحمد عرابي في مصر قال الشيخ محمد عبده –وكان قد اشترك فيها – قال كلمته المشهورة : لعن الله السياسة وساس ويسوس وكل مشتقاتها .

وعندما يطول أمد الثورة يخرج الغوغاء والانتهازيون، ويتحكم “الجهلة في بعض الأمور ففي ثورة القاهرة الثانية  (ضد الفرنسيين الذي جاء بهم نابليون) حصل كلام في الهدنة واستدعي كبار العلماء ليسمعوا الشروط، فقامت عليهم العامة وشتموهم، يقول المؤرخ الجبرتي: وكان يشد أزر الغوغاء رجل مغربي وغرضه دوام الفتنة ليكون قائدا يجتمع الناس عليه.

وعندما يطول أمد الثورة يخشى من تسلل طبقة المصالح التجارية والمالية إلى مكونات الثورة من حركات دينية وسياسية، بحيث يتم القبول بحلول ضعيفة أو رديئة لا تضمن مصالح الأمة ففي تجربة نشوء باكستان، كانت القيادة منذ مولد هذه الدولة في يد طائفة من أثرياء المسلمين المتفرنجين، وكان زعماء حزب الرابطة من هذه الطبقة التي انفردت بالصلاحية في مجال تكوين دولة حديثة. وفي تاريخنا القديم كانت الدولة العبيدية والتي تسمى ( الفاطمية ) تحاول التوسع نحو بلاد الشام ولكنها لقيت مقاومة شديدة من مدينة دمشق ” وصمد أهالي دمشق وكاد الإخفاق أن يلحق بالجيش الفاطمي لولا أن جماعة من تجار المدينة قامت فشكلت وفداً قام بالتوسط لدى جعفر بن فلاح ( قائد الغزو الفاطمي ) وبث هذا الوفد التخاذل بين المدافعين مما سبب ايقاف المقاومة وأدى إلى فتح أبواب المدينة لجيش ابن فلاح ” (انظر : الحشاشون ، الاغتيال عند الإسماعيلية ، برنارد لويس ترجمة وتقديم سهيل زكار ) والسؤال : هل في سورية اليوم طبقة برجوازية تعيد الرواية وتخذل المدافعين ؟!!

ومن عقابيل الثورات التي ظهرت في الثورة الفرنسية والروسية والصينية، وقد لا تظهر واضحة في سورية لطبيعة الثورة وطبيعة الشعب، ولكن قد يظهر شيء منها إذا لم ينتبه للأمر، ففي الثورات التي ذكرت أعادت الثورة انتاج نظام فيه شبه بالنظام التي ثارت عليه فظهرت القيصرية في روسيا بثياب جديدة وهو طغيان الحزب والدولة، وفي الصين ظهرت البيروقراطية القديمة في صورة التسلط النظري للعقيدة الماوية .

وضباط مصر الذين ثاروا عام 1952 على الإقطاع والباشوات، تحولوا هم إلى باشوات من نوع اخر، ويكتب المؤرخ المصري  حسين مؤنس كتابه (باشوات وسوبر باشوات) والذين ثاروا على السلطان عبد الحميد واتهموه بالاستبداد وأنه ألغى الدستور هؤلاء عندما استولوا على السلطة حكموا بالبطش وبالنار والحديد

التحديات

هناك عنصر في الثورة فيه غموض، يحلم بماض غير ملوث يريد تحقيقه اليوم هذا الحلم وهذه الاطلاقات العامة من الشعارات لا تكفي، ولا يصلح استنساخ صور جزئية من الماضي وإجرائها على الواقع دون معرفة الواقع والاجتهاد له، يجب أن ترسم الثورة خطاً واضحا حول التغيير المنشود، وقد تصل الأمور إلى الحل السياسي فكيف ستكون المواقف ؟ إن هذا من أكبر التحديات التي تواجه الثورة ، هل تبدأ التنازلات والشروط المخففة ، وهل يصل الأمر إلى تقشير التفاحة حتى لا يبقى منها شيء بحجة الاعتدال وباسم التكتيك وتتخلى الثورة عن بعض أصالتها ورموزها ؟ هل تحتضن الثورة أنصارها وأعداءها بحجة المصالحة والتقارب ، وتكون النتيجة طبعة هجينة من الثقافة والإسلام المدجن  ، ويصبح المواطن كالبصير في بيت مظلم يتلمس طريقه ولا يكاد يهتدي إلا مجروحاً أوملدوغاً . هذا ماوقع في ثورة الجزائر حين غاب العلماء وأصحاب الاتجاه العروبي الإسلامي عن مؤتمر الصومام بعد سنتين من اندلاع الثورة ورفع في المؤتمر شعار : الجزائر جزائرية لاعربية ولاإسلامية  واستمر التخريب .

وإذا كان الغرب لا يريد نجاح أي مشروع إسلامي ، ويعتبرونه قوة مضادة له ، وإذا كان واجب أهل الإسلام أن يعوا هذه الحقيقة ، فإن هذا لايعني إخفاء إسلامنا أو عقيدتنا ، ولكن من الممكن السكوت عن الغايات الكبرى والتحدث عن المرحلة التي نحن فيها والمطالب العادلة التي نريدها .

الحل السياسي الذي يقبل هو الذي يحقق المطالب الأساسية للثورة وللأمة ، وموضوع الحلول السياسية للثورات ليس غريباً على ثقافتنا وتاريخنا ، ومن الأمثلة على ذلك الثورة التي قامت على الحجاج بن يوسف في الكوفة والبصرة ، قام بها العلماء والصلحاء من الناس ، وسميت هذه الثورة بثورة الفقهاء وفيها كبار العلماء والقراء والعباد في ذلك العصر من أمثال عامر الشعبي وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومحمد بن سعد بن أي وقاص وأوس بن عبدالله الربعي وغيرهم كثير . قاموا مع عبدالرحمن بن الأشعث أمير الجيش الذي وجه إلى سجستان ، وكان على خلاف مع الحجاج فلما قرر الرجوع لعزل الحجاج وافقه العلماء وقاموا معه ، وذلك بسبب ظلم الحجاج وعسفه ، قال عنه ابن كثير : ” وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة وكان ناصبياً خبيثاً ”

خرج هؤلاء العلماء لعزل الحجاج وإقامة العدل ، وكان بعضهم هارباً ومختفياً من الحجاج قبل الثورة . التقى ابن الأشعث ومعه العلماء مع الحجاج في معارك كثيرة ، وقد اجتمع أهل الكوفة والبصرة وأهل الثغور على حرب الحجاج ، وغالبها انتصارات للثورة ولكنها طالت لمدة سنتين تقريباً ، ثم جاءت فرصة ثمينة لهؤلاء الثائرين حين عرض الخليفة عبد الملك بن مروان أن ينزع الحجاج وأن يتولى ابن الأشعث أي بلد يشاء مادام الخليفة حياً ، والعفو عن الثائرين معه ، يذكر الطبري أن ابن الأشعث رأى مصلحة في ذلك العرض ولكن بقية الجيش رفضوا هذا العرض وقالوا : لا والله لا نقبل نحن أكثر عدداً وعدة ، بل صرح بعضهم بخلع عبد الملك نفسه ، ولذلك استمر القتال وانهزم ابن الأشعث ومن معه في معركة دير الجماجم ، وقتل من قتل من العلماء سواء في المعارك أو على يد الحجاج مثل سعيد بن جبير رحمهم الله جميعاً .

إن عدم قبول رسالة عبد الملك كان غلطة كبيرة أو استراتيجية كما يقال اليوم ، لأنها كانت فرصة لفرض الشروط المناسبة ، ونحن هنا نتحدث عن الحل السياسي الذي يحقق المصالح العليا للثورة وليس لقاءاً

في منتصف الطريق مع النظام المجرم، فمثل هذا الحل مرفوض ابتداء ولكن الحل المطلوب هو أن  ينظر في الفوائد وفي المصالح والمفاسد ، فالمرونة والثبات على المبادئ ميزة كبرى لأي جماعة أو حزب أو ثورة أو دولة .

ومع المرونة والثبات يجب أن تستمر روح الثورة التي انطلقت من المساجد ، وننشر ونعيد بقوة خطوط الدفاع الإسلامية ( المنزوعة السلاح ) وأعني أمن العقيدة وأمن الشريعة وأمن الثقافة والحضارة ، وأمن الإنسان .

ومع المرونة والثبات نمهد للهدف الكبير ، ونعمل على ماهو مشترك بين الجميع من إقامة العدل ونشر الحرية ودستور يضمن هوية الأمة ، فالثورات التي تقوم على أساس الدين هي التي تقود التاريخ وتمنح الشعوب الوحدة والقوة ، ولاننسى أن التقدم الأوروبي وخاصة في ألمانيا وبريطانيا ثم أمريكا وأعني التقدم الحضاري والصناعي كان من أثر ثورة ( لوثر ) و ( كالفن) ومذهب البروتستانت ، وبعض العلماء يرى أن إصلاحات لوثر الكنسية إنما استفادها من الإسلام

   عودة إلى التربية القرآنية – المحكم والمتشابه

د . محمد العبده

ليس هذا المقال لبحث موضوع المحكم والمتشابه من جميع جوانبه ، ولكن للتركيز على شأن محدد فيه وهو إرجاع المتشابه إلى المحكم في موضوع المشيئة الإلهية التي يتكرر ذكرها في القرآن الكريم ، وإذا رجعنا إلى الآيات التي تتحدث في هذا الشأن نجد إشارة إلى أن القرآن الكريم كله محكم  (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) ( هود 1).

أي هو في غاية الإحكام وقوة الاتساق ، فأخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل ، ولا يتطرق الضعف إلى ألفاظه ، ومن جهة أخرى وصف القرآن كله بالمتشابه ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً )( الزمر23) فهو متشابه في الحسن والهدى والنفع والبلاغة والإعجاز ، ومن جهة ثالثة وصف بأنه يتضمن المحكم والمتشابه ( منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ….)(آل عمران 7) وأم الكتاب أي معظم الكتاب ، فالمحكم هنا هو ما يدل على معناه بوضوح لا خفاء فيه ، ولا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى ، والمتشابه هو ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره ، وهو مما يتعلق به أهل الزيغ ابتغاء الفتنه ، والراسخون في العلم يردون المتشابه المحتمل إلى المحكم الصريح ، ويزيلون ما فيه من شبهة أو غموض ، ولا يسمى أحد راسخاً إلا بأن يعلم من هذا النوع بحسب ما قدر له ، وإذا خفي عليه شيء يقول : ( كل من عند ربنا ) فيصير كله محكم .

فإذا قرأ المسلم هذه الآيات ( ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، وكان الله غفوراً رحيما )(الفتح 14) أو قرأ : ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء )(فاطر 8)  أو قرأ : ( ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ، ولكن يدخل من يشاء في رحمته ، والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير )(الشورى8 ) .

وظن أنها خلاف الحكمة ، أو أن هدايته وإضلاله جزافاً بغير سبب  ـ معاذ الله ـ ، فلا بد أن يرجع إلى الآيات التي توضح هذا الإشكال وهي أن هدايته لها أسباب يفعلها العبد ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام )(المائدة 16) وأن اضلاله لعبده له أسباب وهو تولي هذا العبد للشيطان ( فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله) ( الأعراف30) .

وقوله تعالى ( إنا جعلناعلى قلوبهم أكنّة أن يفقهوه )(الكهف57) أي لئلا يفقهوه ، وذلك عقاباً لهم بسبب

إعراضهم واستكبارهم كما في قوله تعالى ( وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها ) وقوله تعالى ( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ، ولوعلم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) ( الأنفال / 22 ــ 23 )

وقوله تعالى ( أن تكفروا ، فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر ، وأن تشكروا يرضه لكم ) فاتباع الناس لآبائهم ، وإعراضهم واستهزائهم هو السبب في هلاكهم . ( ذلك جزيناهم بما كفروا ، وهل نجازي الاالكفور ) سبأ / 17 ( كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ) ( غافر/ 34 ) .

( ما يفعل الله بعذابكم ان شكرتم وآمنتم ، وكان الله شاكراً عليماً ) ( النساء / 147 )

قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى ( اشتروا الضلالة ) لما تركوا الهدى وأعرضوا عنه ،

( 1 )

ولازموا الضلالة وتكسّبوها مع أن الهدى ممكن لهم ميسر ، كان ذلك كبيع وشراء )

وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يضل إلا الفاسقين ، ومن آثر الضلال على الهدى ،قال الشيخ اليماني ( وفي القرآن آيات كثيرة في أن الله تعالى لا يهدي الكافرين ، والمراد بهم

( 2 )

من استحكم كفرهم ، وليس كل كافر ، فقد هدى الله من لا يحصى من الكفار  .

ومن الآيات المحكمات التي يرجع إليها قوله تعالى ( إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً ، إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا ) (الإنسان / 2 ــ 3 )

هديناه السبيل ، وضحنا له الطريق ، وهو الذي اختار . وكذلك قوله تعالى ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )

ولكن الإنسان رغم ما أعطي من القدرة على الاختيار إلا أنه يبقى تحت تصرف مشيئة الله ، وحتى لا يظن أنه خارج عن مشيئة الله المطلقة ، وهي مشيئة حكيمة مدبرة ، خلقت أسباباً ومسببات وسنناً كونية ، والإنسان يحيا ضمن هذه السنن فالأيات التي تذكر ( يهدي من يشاء ويضل من يشاء ) إنما تأتي للدلالة على انفراده سبحانه وتعالى بخلق الأشياء وتدبير جميع الأمور ، ليتعلق رجاء العبد به وحده ، يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذا الموضوع : ” فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس لصلح العالم صلاحاً لا فساد فيه فالله سبحانه أخبر ، وهو الصادق الوفي أنه يعامل الناس بكسبهم ، ويجازيهم بأعمالهم ، ولا يخاف المحسن لديه ظلماً ولا هضماً ، ولا يخاف بخساً ولا رهقاً ، وإذا أوقع عقاباً أوقعه بعد شدة التمرد والعتوّ عليه كما قال تعالى عن أهل النار ( فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير ) فالجهّال بالله وأسمائه وصفاته يبغضون الله إلى  خلقه ، ويقطعون عليهم طريق محبته والتودد إليه بطاعته  من حيث لا يعلمون ، وذلك حين يقررون أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعة ، وأن العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكره ، ويتلون قوله تعالى ( لا يسأل عما يفعل ) وقوله ( أفأمنوا مكر الله ، فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون ) ( الأعراف / 99 ) وأنه يجوز عليه أن يعذب أهل طاعته ويُنعّم أهل

( 3 )

معصيته )    والذين يقصدهم ابن القيم أرادوا إثبات المشيئة المطلقة لله ، وكل هذا من قبيل العناد وردة الفعل تجاه المعتزله ، الذين تطرفوا وبالغوا في حرية الإنسان وإرادته بعيدة عن إرادة الله ومشيئته ، يقول الشيخ محمد عبدالله دراث : وإذن فبدلاً من أن يؤكد الأشاعرة

القدرة الإلهية الكاملة التي غاب عن المعتزلة تأكيدها ، وبدلاً من أن يجعلوها في مقابل الحكمة التي حاول المعتزلة إبرازها ، نجدهم وبدافع الحمية وقلة الحكمة النظرية ، قد ألغوا

( 4 )

تقريباً الحكمة من أجل القدرة ”

ويتعجب الإنسان من هذا الجدل بين الأشاعرة والمعتزلة مع أن الأمر واضح ، ولكنه الجدل والعصبيات والمماحكات النظرية ، ويوضح هذا الأمر الشيخ ابن سعدي ” وهذه الآيات التي تضاف فيها الأعمال إلى العباد حسنها وسيئها اذا اشتبهت على القدرية ، فظنوا أنها منقطعة عن قضاء الله وقدره ، وأن الله ما شاءها منهم ولا قدرها ، تليت عليهم الآيات

الكثيرة الصريحة على تناول قدرة الله لكل شيء من الأعيان والأعمال ، فالطاعات

(5)

والمعاصي واقعة منهم بقدرتهم وإرادتهم ، والله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم ”

إن الذين وصفهم الشيخ دراز بقلة الحكمة النظرية ردوا النصوص الصريحة الدالة على ثبوت الأسباب شرعاً مقدراً كقوله تعالى ( بما كنتم تعملون ) ( بما قدمت أيديكم ) ردوا ذلك بالمتشابه ( هل من خالقٍ غير الله ) ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) إن ّ الله سبحانه وتعالى أودع سنناً في الكون ، مثل شروق الشمس وغيابها ، ووجود السحاب ونزول المطر ، وحدوث الزلازل ، والعلماء اليوم يتوقعون نزول المطر في يوم كذا ، ولكن من الذي وضع هذه السنن في الكون ، إنها إرادة الله الكونية وقد أودع الله في فطرة الإنسان قوة تعينه على تمييز الحق من الباطل ، وتهيب به إلى المبادرة إلى الحق ، ومجانبة الباطل ، هذه القوة هي التي قال الله عنها ( فطرة الله التي فطر الناس عليها )وتقارعها قوة أخرى تسوقه إلى الباطل ، وتزين في نظره الكذب ، فإذا أناب الإنسان إلى الله ، تجلى له الطريق الذي يتوصل به إلى الله ، وإذا استكبر ولم يشعر بحاجة للإنابة ، فلن تأخذ الكلمة إلى قلبه سبيلا قال تعالى : ( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا ، وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه ، وفي آذانهم وقراً ) ( الإسراء / 45 ) .

إنّ الله سبحانه وتعالى أمر بتدبر القرآن مطلقاً ، وأخبر أنّ القرآن هدى وشفاء ، فلا بد أن تكون جميع نصوص القرآن مفهومة ، وقد فسر السلف جميع القرآن ( مجاهد عن ابن عباس ) وأخبر تعالى أن المحكمات هن أم الكتاب وعمدة ما فيه ) والمتشابه  هو امتحان للعباد كي يرده العلماء إلى المحكم فتسميتهم راسخين يقتضي بأن يعلمون غير المحكم .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ) تفسير ابن عطية  2 / 75 .

2 ) عبد الرحمن المعلمي اليماني : ايثار الحق على الخلق/16 .

3 ) الفوائد  / 208 .

4 ) دستور الأخلاق في القرآن / 99 .

5 ) القواعد الحسان / 69 . 

 

في آفاق التغيير – الأمن الثقافي

د. محمد العبدة

هل نحن بحاجة لأن نصد الأبواب ونعلي الأسوار أمام موجات الفكر الغربي الذي أفرز في العقود الأخيرة مذاهب العدمية والعبثية واللاعقل واللاوعي ،نتكلم عن هذه المذاهب التي تمثل حالة اليأس والاغتراب ،ولكن من الإنصاف القول أن الفكر الغربي أنتج أفكارا ايجابية في بعض الميادين التي نفعت البشرية ، وشيء آخر وهو أن هذا الفكر يمثل انشغالاً مع الواقع الغربي ، ويتحدث عن مشاكل تضرب المجتمعات الغربية ،ولكن المشكلة عندنا في ايمان بعض مثقفي العرب بأن كل ماهو عند الغرب يمثل إشراقاً وحضارة ، بينما نجد أن الغرب يعترف بأنه يواجه تحديات كبيرة ، إنه الفكر الذي يمثل حالة الغروب لحضارتهم المعاصرة. ، لماذا تذهب الأعمار عند بعض المتعلمين وأصحاب الشهادات عندنا في قراءة ( البنيوية ) و( التفكيكية ) وقراءة الوجودية وما بعد الحداثة ، وتترجم أعمال ( نيتشة ) و ( كيرلجارد ) و( هايدجر ) وكأن هذه الأعمال ستساهم في مشروع النهضة عندنا  ، والملفت للنظر أنه عندما ينتهي هؤلاء من قراءة هذه النظريات يكون الغرب قد أنتج مذاهب وفلسفات أخرى ،فهل يستمر هؤلاء في الجري وهل يلحقون به ؟

لماذا نكرر أخطاءنا ، فقد نشأ عندنا في التراث الإسلامي ما سمي ب ( علم الكلام ) وهو جدل عقيم في مسائل نظرية ليس لها صلة بالواقع ، خاصة بعد أن ترجمت كتب اليونان والمتعلقة بالإلاهيات ، مسائل لم تقم دينا ولادنيا ، وكان الأولى الإهتمام بالجانب العلمي العملي التجريبي ، وذهبت الأعمار بل وذهب الذكاء في ردود وخصومات لاتقدم ولا تؤخر،

هل نفعل هذا أم نفتح الأبواب مشرعة لكل دخيل من الأفكار ولاننتهي من قراءة نظرية حتى يأتي غيرها ،وكان آخرها ما يسمى بنظرية أوفلسفة ما بعد الحداثة التي تقوم على اعتقاد أن كل الأمور نسبية ولا يوجد شيء مطلق ، فما هو الخير وماهو الشر ، وما هو العدل وما هو الظلم ، وما هو الجميل وما هو القبيح ، كل ذلك أمور نسبية وليس هناك حقيقة مطلقة ، لأنك إذا اعتقدت أن الحق كله معك فهذا يعني أن مخالفك على باطل وهذا احتكار للحقيقة ، ولذلك يقول أهل هذه الحداثة : يجب أن يمنع الفكر الذي يدعي أنه يمتلك الحقيقة وحده . هذه النظرية تريد أن تؤكد للناس أنه لا توجد حقائق مطلقة ، هذه النظرية التي تتماهى مع السفسطة إذا أريد تطبيقها على الواقع فلن تأتي إلا بكل شر .

هل نسمح لهذه النسبية أن تزعزع الثوابت من القيم والأخلاق في مجتمعاتنا  وحتى لانتهم بالجمود والتقوقع على الذات أم نصد الأبواب أمام هذه الهرطقة ؟ وكذلك أمام موجات الانحلال الأخلاقي وقيم الاستهلاك والرأسمالية المتوحشة ، ولماذا لا نسأل عن هذا التركيز الذي تمارسه وسائل الاعلام ( عربية وأجنبية ) على تفكيك الأسرة وهدمها ليبقى الفرد وحيدا شريدا لا يستطيع الصمود وحده أمام هذا الضخ الإعلامي الذي يغرق الناس بالتوافه من الأمور ، او يطلب من هذا الفرد أن يفعل ما يحلو له لأنه غير مرتبط بقيم الأسرة وقيم المجتمع ، ولماذا هذا التركيز على ( الأنثى ) و ( gender ) رجوعا الى فرويد وأمثاله . إنها ( تسونامي ) من ثقافة معينة تريد اقتلاع الجذور ليغترب المسلم عن حضارته وثقافته .

إن مايسمونه حرية الإبداع التي لا يحدها أي منظومة أخلاقية أوفكرية قد تحولت إلى صنم تؤزه علمانية شاملة شرسة ( 1) فأصبح كل خروج عن الدين أو العقل أو الأعراف يقال عنه ( حرية الإبداع ) وتحول الإعلام الذي يروج لهذا النوع من الفن إلى ديكتاتورية وكأنه هو الذي يحدد ماهو الحق وما هو الباطل . ربما يقال هنا : إنك لاتستطيع أن تمنع شيئا لأن التقنية الحديثة دخلت كل منزل ، فالعالم أصبح قرية واحدة من ناحية الاتصال والمواصلات ، هذا صحيح ولكن العالم لم يصبح قرية واحدة من ناحية الثقافة والحضارة ، فكل أمة لها ثقافتها ولا تود أن تضيع في غمار حضارة أخرى ، والمسلمون هم أكثر الناس تميزا بحضارتهم وهويتهم .

هذا ليس انغلاقا أو جمودا فالمسلم بطبيعته منفتح على كل ما فيه خير وحق وهو يثق بما يملك ولا يخشى من التواصل مع الآخرين ، ولكن الأمن الثقافي لابد منه ، وقد حقق المسلمون هذا الأمن عندما أوجدوا علم الجرح والتعديل وذلك حماية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب والتزوير ، وهكذا وصلت إلينا السنة نقية صافية ، وكذلك صنعوا حين أقاموا القواعد التي تضبط تفسير القرآن الكريم حتى لايتسلق على هذا الكتاب كل دجال عليم اللسان ، وصانوا القرآن الكريم من التأويل الباطل وبقي هذا المنهج على مدار القرون يجتهد العلماء في كل عصر بما ينفع المسلمين حسب ظروفهم وعصرهم ضمن هذه الضوابط المرعية ، ما فعله علماؤنا لم يكن نوعا من الرفاهية الفكرية بل كان جهدا واعياً من اجل حفظ هوية الأمة وتراثها .

هل نتخلى عن الهوية وعن الذاكرة التاريخية في سبيل إرضاء ( الآخر) وهل يعني عدم الإكراه في الدين أن من حق كل إنسان أن ينشر ويدعو إلى عقائده المضادة للمجتمع الذي يعيش فيه هذا ما يريده لنا مثقفونا المتشربون بثقافة الغرب ، ولا يجدون ضيرا باتهامنا بالتخلف والتراثيين ،بينما لا يرون ما يفعله الغرب وبقية الأمم للحفاظ على تاريخهم وتراثهم ، فالغرب نفسه يقيد الحرية إذا تعلقت بأمن المجتمع ، والفرد في الغرب ليس له الحق أن يفعل مايشاء ، بل هو محكوم بما يقرره المجتمع الذي يعيش فيه ، فإذا قرر المجتمع من خلال برلمانه أن القضية الفلانية تمثل تحريضا على الكراهية مثلا ، فالفرد مقيد بهذا القانون ، فالحرية لم تعد مطلقة كما يقولون ، ولذلك أليس من حقنا أن يكون لنا قضايا مطلقة لايمكن تجاوزها ، هناك فرق بين المعتقدات والمعتقدين ( 2 ) فالإسلام لا يقر المعتقدات المحرفة أو الباطلة ولكنه يتعايش مع المعتقدين ضمن وطن واحد وأنظمة تشمل الجميع ،

إن من حقنا كمسلمين أن نقدم رؤيتنا الخاصة للإنسان وغاياته ووظيفته في هذه الحياة  ، إن من حقنا أن نقدم رؤيتنا الإعلامية التي تظهر الحقائق ولا تدغدغ العواطف والغرائز ،ورؤيتنا التربوية في تعليم الأجيال العلم النافع الذي يسعى لسعادة الإنسان ، وليس العلم الذي يدمر الإنسان ويكون سلاحاً بيد الدول والسياسيين يستخدمونه لأهوائهم . ومن حقنا المحافظة على الأسرة والمرأة من التفكك وما تدبره وسائل الإعلام لإفساد هذه الخلية الأساسية في بناء المجتمع .

إن فرنسا تمنع بعض الأفلام الأمريكية حفظاً لثقافتها الخاصة ، وروسيا اليوم تعيد للكنيسة الشرقية دورها وترمي بثقافة الشيوعية إلى مزبلة التاريخ ، وتريد استرجاع مجد القياصرة ،فما بالنا نحن نفتح الأبواب لكل دخيل وهزيل من ثقافات الأمم الأخرى ونخجل من هويتنا وتراثنا ونضعف أمام موجات النقد مخافة أن نتهم بالجمود والتخلف ، والله سبحانه وتعالى يقول للمسلمين مخاطبا نبيه : ” ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • كما يعبر عبد الوهاب المسيري ، انظر : حوارات في الثقافة والمنهج
  • انظر : جعفر شيخ إدريس : صراع الحضارات

قراءة في كتاب ( القيادة المرتكزة على المبادىء )

د . محمد العبده

تمهيد

عندما أراد ابن خلدون المؤرخ وعالم الاجتماع الإسلامي أن يرجع إلى العصور الاسلامية الأولى ، ليبحث عن العلة التي بدأ منها التراجع ، أو عن بداية الخلل ، وجدها في تغير الصلة بين القيادة والأمة . لقد تبدلت الطاعة ، ففي عهد الراشدين كانت الطاعة قائمة على الدين الخالص ، فالمسلم يطيع الخليفة تديناً لا طمعاً في مغنم من مال أو منصب أو جاه ، ولا خوفاً من أذىً أو ذهاب دنيا ، كانت الطاعة قائمه على الثقه المتبادله ، على المشاركه في الأهداف والغايات ، فالمسلم له كرامته ويتحمل المسؤولية ويعتبر نفسه جزءاً من رسالة يؤديها الحاكم والمحكوم ، رسالة ترتقي بالإنسان لتحقيق الخير والعدل والسعادة في الدنيا والآخرة .

عندما يكون الخوف هو الوازع للناس ليقدموا الطاعة فقد يعطي هذا نوعا من الاستقرار ، ولكنه استقرار خادع وتوافق ظاهري والتزام سطحي ، وفي أول فرصة عندما تغيب المراقبة وينتهي التهديد سيتحول هذا الاستقرار إلى التدمير وإلى التنازع ، إن نموذج السيطره القائمه على الإرغام والعصا الغليظه , سوف يؤدي الى الشك والكذب والانحلال على المدى البعيد لأنك عندما تجرد الإنسان من كل شيء فستفقد السيطرة عليه .       عندما يكون الوازع هو الحصول على المغنم ، هنا تتحول القضية إلى صفقات متبادلة بين القائد والأتباع ، القائد يريد الدعم والاهتمام والمال وفي المقابل يرضي الأتباع بما يريدونه من مزايا دنيوية مثل الترقية والحصول على المعلومات ، هذه العلاقات المنفعيه سوف تؤدي إلى تغلب روح الفرديه وإبعاد روح الفريق كعمل منتج .

وأما القياده التي ترتكز على المبادىء ، فالناس يتبعونهم لأنهم موضع ثقة واحترام وتقدير وهناك هدف أكبر للجميع . ولكنها ليست طاعة عمياء ، بل هو التزام قائم على المعرفه .

أهمية القيادة وضرورتها

 

القيادة هي العمل المركز الموجه لتحقيق أهداف سامية ، عنايتها الأولى ليست بإدارة الأشياء بل بتطوير الأشخاص وإطلاق كافة مواهبهم وإشراك مزيج غني من الناس مختلفي الطاقات في التطلع للمستقبل ،ويشير الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم  يطلب من الأمه الاهتمام بموضوع القيادة ، قال صلى الله عليه وسلم ( إنما الناس كالإبل المائه لا تكاد تجد فيها راحلة ” يعلق العلامة عبد الرحمن بن سعدي على هذا الحديث : ” مضمون هذا الخبر إرشاد منه صلى الله عليه وسلم إلى أنه ينبغي لمجموع الأمة أن يسعوا في تأهيل الرجال الذين يصلحون للقيام بالمهمات والأمور الكلية العامة النفع ”  . وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجاً لأمته في هذا الجانب ، فهو الخبير في اكتشاف طاقات الصحابه ، يستشيرهم  ويشاركهم في القرار ( بدر وأحد والخندق …)

ويشاركهم في بناء المسجد ، لقد بنى فريقاً مثالياً بخطوات وئيدة ، ينضجها القرآن الكريم ويوجهها من خلال الجد والاجتهاد ، والصبر والابتلاء ، فالقيادة الحقيقيه تبدأ من أعماق النفس ومن خلال انضباط النفس ، كان صلى الله عليه وسلم عالماً بنفوس صحابته ، واقفاً على أسرار أخلاقهم ، فعامل كل واحد منهم المعاملة اللائقة حتى أشربت القلوب محبته ، فلم ينفض أحد من حوله .

اهتم الغربيون في العصر الحديث اهتماماً بالغاً في موضوع القيادة والإدارة ، عشرات ومئات الكتب المؤلفة في هذا الجانب ومن الأسماء التي اشتهرت في عالم التأليف في هذه الموضوعات صاحب كتاب ( العادات السبع للناس الأكثر فعالية ) والكتاب الذي نحن

                                                                                      (  1 )

بصدده ( القياده المرتكزة على المبادىء )   .

ومن البداية يؤكد المؤلف على أن المبادىء الصحيحة مثل البوصلات حيث تشير دائماً إلى الوجهة الصحيحة ( الشمال ) فإذا كنا نعرف كيف نقرأ البوصلة ، فلن نضل الطريق ، ولن تخدعنا الأصوات أو القيم المتعارضه وهذه المبادىء موجودة في كل زمان ومكان ، حيث تظهر في صورة قيم وأفكار ومعايير وتعاليم تسمو بالناس وتقويهم وتلهمهم ، وأي انتهاك لهذه المبادىء الصحيحه فسوف تكون النتيجة انحدار المجتمعات والكوارث الاقتصادية والثورات السياسية والحروب الأهلية .

وهي مبادىء لا تتغير ولا تتحول ، يسميها المؤلف : مبادىء طبيعية مجمع عليها بين

( 2 )

الخلائق  هذه المبادىء هي المركز الذي يؤمننا ، هي القوة الداخلية في حياتنا ، إنها تكوّن لدينا شعوراً بالقدرة على التنظيم والسيطرة على كل شيء في حياتنا ، بما في ذلك الوقت والمواهب والمال والممتلكات والعلاقات ، وتعطينا شعوراً بقيمتنا وهويتنا ، وبالشجاعة اللازمة لإنجاز الأشياء . ولعل ما كتبه المؤلف في أحد الفصول عن الأخطاء السبعة القاتلة , ما يزيد في وضوح المبادىء التي يرى أنه لا بد منها للقيادة وللبشر بشكل عام .

إن هذه الأخطاء خرق للمبادىء الطبيعية ومن هذه الأخطاء القاتلة :

1 ــ الثروة دون عمل : أي التلاعب بالأسواق وتكوين الثروات دون تعب .

2 ــ المعرفة دون نزاهة شخصية ، فالتطور العقلي دون تطور داخلي مساوٍ في نزاهة الشخصية أشبه بإعطاء مراهق سيارة رياضية عالية السرعة .

3 ـ العلم دون إنسانية ، ونخشى أن نصبح ضحايا التكنولوجيا إذا لم يكن لدينا فهم جيد للأهداف الإنسانية العليا التي تعمل التكنولوجيا لتحقيقها .

4 ـ السياسة دون مبدأ ، وإذا لم يوجد مبدأ فلن توجد وجهة صحيحة ، وستكون النتيجة مؤسسة أو مجتمعاً مريضاً ذا قيم مشوهة .

وإذا كان الحديث هو عن القادة الذين يتصرفون من خلال المبادىء فلا بد أن يتميزوا بخصائص معينه يتحدث المؤلف عن هذه الخصائص في النقاط التالية :

1 ـ إنهم يتعلمون باستمرار ، حيث يقرأون ويبحثون عن التدريب والدورات التعليمية ،ويستمعون للآخرين ويطرحون الأسئلة باستمرار .

2 : يعتبرون حياتهم رسالة وليست مهنة ، يستيقظون كل صباح وهم يضعون تقديم الخدمة للآخرين في أذهانهم .

3 ـ إنهم ايجابيون تغلب عليهم التوجهات المتفائلة ، ولذلك فهم يملكون القدرة على جذب مجالات الطاقة الإيجابية الأقل قوة من مجالاتهم ، ويزيدون من قوتها .

4 ـ إنهم لا يحملون الضغائن ، وبطبيعتهم لديهم رغبة في العطف والصفح عن الآخرين ونسيان إساءاتهم ، إنهم يعلمون أن لدى الناس قدرات غير ظاهرة يجب اكتشافها ، بل يرون في البذرة الصغيرة شجرة ضخمة ، ويعرفون العملية اللازمة لتحويل هذه البذرة إلى تلك الشجرة الضخمة .

5 ــ يحيون حياة متوازنة ، يتميزون بالنشاط الذهني ، يقرأون أفضل الكتب والمجلات ، على اطلاع على الأحداث الجارية ، يشعرون بقيمتهم ولكنهم لا يتباهون بأنفسهم أو بمعرفتهم أو بما لديهم من شهادات أو إنجازات سابقة ، ولا يتلاعبون بغيرهم يفضلون التصريح الضمني على المبالغة في التعبير ، ليسوا متطرفين لا ينظرون بمنظار : إما كل شيء أو لا شيء . بل يفكرون بطريقة الأولويات، لا يغرقون في التفكير في الأمس ولا يقضون الوقت في الحلم بالمستقبل بل يعيشون بمنطقية في الحاضر ويخططون بحرص للمستقبل .

6 ـ إنهم بسبب شعورهم بالأمان الذي ينبع من داخلهم فإنهم يقاومون التبعية لأي شخص ،

وينظرون للوجوه القديمة نظرة متجددة ، إنهم أشبه بمستكشفين شجعان في رحلة استكشافية لأرض غير مأهولة . وشعورهم بالأمن يكمن في روح المبادرة وفي سعة مصادرهم ومواردهم وقوة إرادتهم .

7 ـ إنهم متعاونون ، والتعاون هو الحالة التي يصبح فيها الكل أكبر من الجزء ، وعندما يعملون في فريق عمل فإنهم يوظفون نقاط قوتهم ونقاط قوة الآخرين ، إنهم لا يشعرون بالتهديد عندما يرون غيرهم أفضل منهم في بعض الأمور ، ويركزون على اهتمامات الآخرين أكثر من الدفاع عن مواقفهم ، وبذلك يكتشف من يتعامل معهم شعوراً بالأمان ويدخل الجميع في عملية ابداعية لحل المشاكل .                                                وتحت عنوان تغيير النموذج الإداري يذكر المؤلف أربعة أنواع من القيادات والإداريين ومع أنه يتحفظ على هذا التقسيم لأن طبيعة البشر ليس بهذا التقسيم الحاد ، إلا أن فائدة ذكرهذه الأنواع واضحة لنتعرف على عقلية بعض القادة الإداريين .                                                1 ــ النموذج الذي ينظر للبشر على أساس أنهم ( كائنات اقتصادية ) فالمدير هنا يستعمل نظرية العصا والجزرة ، والقائد هنا يقول عن نفسه : أنا المسيطر وأنا من يعرف ما هو الأفضل ، والناس مذعنون ليحصلوا على المكافئات الاقتصادية وكسب العيش لأنفسهم ولعائلاتهم . ويسمي المؤلف هذا النموذج نمذج ( البطن ) .                                  2ــ نموذج العلاقات البشرية  :                                                                    القائد هنا يعلم أن البشر لا تحركهم بطونهم فحسب بل وقلوبهم أيضاً ( مخلوقات اجتماعية ) هنا يتحول المدير أو القائد إلى اسلوب سلطوي ولكنه لطيف ومحب وحنون ، هو يقول القوة ما تزال بأيدينا ولكننا أناس طيبون وعادلون ، ونحن إما أن نكون ضعفاء أو أقوياء وإذا لم نتول السيطرة فسوف يسيطر غيرنا ، ويسمى هذا نموذج ( القلب ) .

3 ــ نموذج الموارد البشرية : هنا لا يقتصر التركيز على  العدل والعطف ، ولكن البشر مخلوقات مفكرة أيضاً ، ويجب أن نخرج ما لديهم من مواهب وإبداع ونبدأ في تفويض المزيد من المهام إليهم ، فالمورد الرئيسي ليس الأصول الرأسمالية أو الخصائص البدنية بل الناس بعقولها وقلوبها ، الناس بحاجة الى النمو والتطور ( مخلوقات نفسية ) ويجب أن يسهم الناس بما لديهم من مواهب لتحقيق أهداف المؤسسة ويسمى هذا نموذج ( العقل )

4 ـ القيادة القائمة على المبادىء :

وهي التي تتعامل مع الإنسان بكامل كيانه ، فهو ليس اقتصادياً أو اجتماعياً أو نفسياً فحسب ، بل هو كائن يريد مغزى من الحياة . الناس هنا يفعلون أشياء ذات قيمة وأهدافاً تؤدي إلى الشعور بالرفعة والنبل يريدون أن يكونوا جزءاً من الرسالة والمشروع الذي يتجاوز مهامهم الفردية ، القيادة هنا تظل قوية لأنها لا تعتمد على حدوث أو عدم حدوث شيء مرغوب للتابع ، والأتباع مستعدون للمخاطرة لفعل الأشياء الصحيحة لأنهم يشعرون بقيمتهم . ويسمى هذا النموذج ( نموذج الروح ) .

إن نموذج ( المعدة ) يقول : ادفع لي راتباً جيداً .

ونموذج  ( القلب ) يقول : عاملني جيداً .

ونموذج ( العقل ) يقول : وظفني جيداً .

ونموذج ( الروح ) أو الشخص ككل يقول : دعنا نناقش الرؤية والرسالة والأدوار والأهداف ، إنني أريد أن أقدم أسهاماً ذا مغزى .

من الواضح ومن خلال مضمون الكتاب وما كتبه المؤلف سابقاً أنه يركز على الجوانب الإنسانية والأخلاقية والمبادىء المتفق عليها بين عقلاء البشر والقيم التي جاءت بها الرسالات السماوية ، والتي أكدت أيضاً على مبادىء عليا مثل حق الحياة وحق الحرية .

والمؤلف عندما يركز على هذه الجوانب لأنه يرى ما يحدث في الواقع عندما تخالف القيادات السياسية أو الشركات الكبرى هذه المبادىء ما يحل بها من تدهور وفشل .

الشركات التي تبتعد عن النزاهة ورجال الأعمال الذين يبتعدون عن التعامل الأخلاقي والسياسيون الذين يتصرفون دون مبادىء عليا كل هذا كان عاقبة أمره خسراً وقد أغرقت البشرية بالنزاعات والتدمير والظلم .

وهذا الذي يركز عليه المؤلف هو من صميم الثقافة الإسلامية ، يقول العلامة ابن خلدون مؤكدا على هذه المعاني ” فإذا نظرنا إلى أهل العصبية ( أهل الحكم ) فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الوفاء بالعهد وتعظيم الشريعة والانقياد للحق ، والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد علمنا أن خلق السياسة قد حصلت لهم . وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك ارتكب أهلها المذمومات وانتحلوا الرذائل فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة ”

إنها سنن الله سبحانه في صلاح البشرية وسعادتها أو انتكاستها وتحطمها ، إنها سنن التقدم والتأخر للأفراد والمجتمعات .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 1 ـ ستيفن كوفي : القيادة المرتكزة على المبادىء ، مكتبة جرير   ط2 / 2013

 

2  ــ لا شك أن أصول هذه المبادىء التي يتحدث عنها المؤلف هي من الرسالات السماوية وتعاليم الأنبياء ، وهو يقول : من الأديان تعلمنا : يجني الإنسان ما يزرعه والأفعال أهم من الأقوال ، ويتحدث أحياناً عن مبادىء هي من السنن الكونية مثل المبدأ الذي يكرر ذكره وهو ( قانون المزرعة ) أي لا بد من الأخذ بالأسباب ، نزرع ثم نعتني بالزرع ثم ننتظر حتى يأتي موسم الحصاد . 

               

لمحات في الشجاعة

د. محمد العبدة

في زمن اختلطت فيه المفاهيم وكثر فيه اللغط في أمور كثيرة تتعلق بمصلحة الأمة، وكثر أدعياء العلم والمعرفة وأصبحوا خبراء في كل شأن، في هذا الزمن نحن بحاجة إلى شجاعة الرأي وشجاعة الكلمة، ليظهر الحق من بين هذا الركام، وإذا كانت الشجاعة مطلوبة في ساحات الجهاد، فهي أيضا مرغوبة في ساحات الفكر والعلم.

إن الحديث عن هذا الخلق هو الحديث عن أمهات الفضائل فبه يظهر الحق ويقمع الباطل، وبه يشفى من أمراض الفساد ،والشجاعة محبوبة متفق عليها بين سائر البشر، فالكل معجب بالبطولة، والكل يتغنى بها ويفتخر بأسماء مشهورة من بني قومه، وقد خصص الشعراء أجمل قصائدهم لذكر الشجاعة التي يقدرها الناس أكثر من غيرها ولأنها أكثر ندرة من غيرها، نجد هذا في الشعر الشعبي خاصة من اليابان إلى أمريكا اللاتينية.

الناس بحاجة إلى أبطال يقولون الحقيقة عارية واضحة يصدعون بها لا يخافون في الله لومة لائم، وهذا يساعد على نزع الأغلال والبعد عن التقليد الذي يزري بصاحبه وعن الأوهام التي تكبل التفكير السديد. الناس بحاجة إلى هؤلاء لكثرة الساكتين عن الحق، ولكثرة المداهنين في دين الله والذين يتمسحون ب(الملأ) ليغنموا فتاتاً من الدنيا، ويفضلون مصلحتهم الشخصية على مصلحة الأمة، ولا هم لديهم إلا العيش الرغيد ولو على ذلٍّ وصَغَار. ولكثرة صنف اخر من البشر وهم المتسلقون على حساب الاخرين، وعندئذ يتم إبعاد أصحاب الصدق والنبل والوفاء، وحتى إن الرجل المخلص المجاهد في الحق ليصعب عليه التعرف على أصحابه الذين بدأ معهم الطريق.

ولأهمية هذا الخلق في حياتنا جاء في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع” فما فائدة الإنسان إذا كان بخيلا وجبانا، والرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من هذين الخلقين لأنه إذا زلزل القلب ضاع تدبير العقل، وظهر الفساد على الجوارح، ووضعت الأمور في غير موضعها، وعندما تفقد الشجاعة وتطمئن النفوس إلى خصال من الضعف والخور تتبدل المصطلحات ويصبح قول الحقيقة يسمى: دخولا في ما لا يعني وإلقاء بالنفس إلى التهلكة، والمتصف بالجبن يسمى حكيما وعاقلا ومسالما…

كان موقف الحسن بن علي رضي الله عنه في تنازله عن الخلافة رعاية للمصلحة العامة وحقنا للدماء يمثل قمة الشجاعة الأدبية، وكذلك كان موقف الصحابي الجليل خالد بن الوليد حين عزل عن القيادة العامة وقبل أن يكون جنديا تحت إمرة أبي عبيدة رضي الله عنه. الشجاعة هي أن يقف الرجل أمام الكثرة التي يعتقد أنها على غير الصواب ويقول: لا، وهذه الوقفة، وهذا الرفض ليس من قبيل العناد أو الغضب السريع ولكنه جاء بعد الدرس والتمحيص، إنها (لا) التي قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين وقف في وجه المرتدين وأصر على قتالهم رغم معارضة بعض الصحابة وهي التي قالها الأئمة أبو حنيفة وأحمد بن حنبل وأمثالهم من العلماء العاملين الذين قالوا كلمة الحق في إبانها بشجاعة وحزم.

وهي (لا) التي يقولها في هذه الأيام الرئيس التركي أردوغان في وجه أمريكا ونفاقها وكيلها بمكيالين، فتطلب منه حماية (عين العرب) ولكنها لا تهتم بملايين السوريين في حمص ودمشق وحلب وهي (لا) التي قالها العالم ( أينشتاين ) للمثقفين في أمريكا حين تسلطت عليهم المكارثية ( 1 ) وراحت تتهم بالخيانة كل من يخالف التوجهات التي جعلتها ميزاناً واختباراً للمواطنين ، يقول : ” على كل مثقف يتم استدعاؤه أمام هذه اللجان للتحقيق أن يرفض الشهادة ، وان يكون مستعداً للسجن والمعاناة من أجل مصلحة الحرية الفكرية في بلاده ” (  2) .

الشجاعة هي أن لا نسلم بغرق المركب رغم التحديات الكبيرة التي تواجه المسلمين في المنطقة العربية في هذه الأيام ، ورغم التفرق والتمزق الداخلي ، يجب ألا نكف عن محاربة المنكر ، هذا من واجبات المسلم . هذه الشجاعة يحتاج إليها المسلمون لأن العواطف الفائرة التي لم تبن على الحقائق هي التي تتغلب أحياناً ، إن قول نعم قد يكون سلبياً وربما عن غير اقتناع ، أو أن صاحبها يريد القبول عند الناس .

إن الخوف وحب الحياة – أي حياة – هو الذي يجعل الطغاة يحكمون الشعوب دهوراً وأعصراً ، بل يحكمونهم وهم في قبورهم ، هذا الخوف وهذا الحب للحياة كما قال تعالى عن بني اسرائيل ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) أي مهما كانت هذه الحياة ، هو المدمر للمدنية والحضارة ، لأن الحياة إذا خلت من خير ومن مثل أعلى لم يكن فيها عزاء وسلوان للإنسان ، وسوف تنحدر هذه المدنية انحداراً بائساً تعيساً .

الخوف والجبن المدمر لشخصية الإنسان هو الذي يسمح للأوهام ذات العربدة والضجيج أن يكون لها صوتاً مرتفعاً ومخيفاً ، كما هي صورة أمريكا اليوم في مخيلة وتصور بعض الناس ، تجدهم يخافون منها خوفاً شديداً ويظنون أنها وراء كل حدث وكل داهية ، إنها تمثل أمامهم حاجزاً مرتفعاً لا يتخطونه ، وبسبب هذا سيعملون بطريقة تؤدي بهم إلى التشرذم والضعف ، إنها أوهام سياسية في عقول الذين لا يعلمون ، كما جاء في الأسطورة التي تقول : ” التقى الوباء يوماً بقافلة في الطريق فسأله أفرادها : من أين هو قادم ؟ قال : من بغداد ، فقالوا له : إذن أنت الذي فتكت بالآلاف التي لقيت حتفها هناك . أجابهم الوباء : كلا ، لقد فتكت منهم بألف فقط أما الباقون فقد قتلهم الوهم ”

هكذا كان حال المنافقين في المدينة قبيل غزوة تبوك ، عندما راحوا يبثون الأراجيف يريدون تثبيط عزائم المسلمين عن الخروج لقتال الروم ويقولون : كيف تقاتلون بني الأصفر ، إن صورة الروم في أذهانهم مرعبة مخيفة ، والمنافقون قوم لايفقهون سنن الله سبحانه في النصر والتوفيق .

يقول الكاتب الروائي ( همنغواي ) متحدثاً عن الخوف أثناء الحروب : ” من أراد أن يعيش في إبان الحرب كما ينبغي فلينزع من ذهنه كل فكرة عن الخطر المحتمل ،فلن يكون الأمر سيئاً إلا ساعة وقوعه ، ليس قبل ذلك ولا بعده ، ومن تعلم أن يعيش في صميم لحظته الحاضرة فقد تعلم أفضل خصال الجندية ”

الشجاعة في قول الحق والأمر بالمعروف هو من صميم شخصية المسلم ، أما الشجاعة في المعارك والبطولات الفذة في تاريخنا فهذا له حديث آخر .

  • هي اتجاه سياسي ظهر في الولايات المتحدة عام 1950 يهدف إلى تشديد الرقابة على الشيوعيين الذين يعملون في الدولة ، وينسب هذا الاتجاه إلى عضو مجلس الشيوخ الأمريكي جوزيف مكارثي ، وقد اتهم عدداً من موظفي الحكومة وخاصة في وزارة الخارجية وقاد إلى سجن بعضهم ، وقد تبين فيما بعد أن معظم اتهاماته كانت على غير أساس ، وأصدر المجلس عام 1954 قراراً بتوجيه اللوم إليه ( مكارثي ) ويستخدم هذا المصطلح للتعبير عن الإرهاب الثقافي الموجه ضد المثقفين .
  • جريدة الحياة 19/6/2007

من يقف خلف تشويه تاريخنا؟

د.محمد العبدة

إن المتتبع لما ينشر هذه الأيام في بعض الصحف والمجلات أو في المواقع (الإلكترونية) وكذلك ما يقال ويتحدث به في الندوات الثقافية. سيلاحظ ظهور فئة من الناس  تدعي التجديد في التراث والثقافة، والتجديد عندها هو تحطيم الماضي، وخاصة التاريخ السياسي والحضاري للأمة (1) فتجدهم يلمزون ويغمزون من قريب أو بعيد في  الدولة الأموية خاصة ، وأنها دولة استبدادية، ثم يرجعون قليلا إلى الوراء ليقولوا: إن الإسلام لم يطبق إلا في عهد الخلفاء الراشدين بل في عهد أبي بكر وعمر فقط.

هذا التعميم الجائر الظالم من هذه الفئة يقول عنه أديب العربية الشيخ محمود محمد شاكر: “يلقي ظلا كثيفا قاتما  كئيبا على العصور الأولى، يدفع إلى الاستخفاف والتحقير والغلو في التهزؤ بأهل هذه العصور ، والشك في أمورهم، ويعمي عن معرفة الحقائق” (2) ليس بخاف على المسلمين العلماء منهم والمؤرخين أن دولة بني أمية ليست  مثل دولة الخلفاء الراشدين، هناك أخطاء وهناك ظلم من بعض الولاة، وهناك وضع للأموال في غير محلها ، ولكن أكثر ملوك الأمويين “كانوا من الحزم والعلم وحسن السياسة والإدارة على جانب عظيم، والسواس منهم معاوية وعبد الملك وهشام…”(3) وواسطة عقدهم وممن تفتخر بهم هذه الدولة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وأحواله وأعماله معروفة مشهورة، كما أن فتوحات بني أمية هي أبقى الفتوحات بعد فتوحات الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وأبعدها أثرا في اتساع نطاق الإسلام ونشر العربية. يقول الشيخ رشيد رضا عن بني أمية: “وكانت حرية انتقاد الحكام والإنكار عليهم على كمالها وأما الاستبداد فكان مصروفا للمحافظة على سلطتهم وقلما تسرب شيئا منه إلى الإدارة والقضاء” (4).

وهذا قتيبة من مسلم الباهلي من ولاة الدولة على خراسان يخطب في الناس “إن الله قد أحلكم هذا المحل ليعز دينه ويذب بكم عن الحرمات، وقد وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم النصر بحديث صادق وكتاب ناطق، ووعد المجاهدين أحسن الثواب، فوطنوا أنفسكم على أقصى أثر وإياي والهوينا” وهذا أشرس بن عبد الله السلمي عامل هشام بن عبد الملك على خراسان أرسل إلى أهل سمرقند وما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية، فسارع الناس هناك إلى الإسلام، وكتب إليه أمير سمرقند: إنهم لم يسلموا إلا تعوذا من الجزية، فقال له أشرس : من اختتن وأقام الفرائض وقرأ سورة من القران فارفع خراجه..” نعم لم يكن الحكم شوريا كما ينبغي وكما هو الواجب، ولكن وجود العلماء والقضاء المستقل والشريعة المطبقة يحد كثيرا ممن تحدثه نفسه بظلم العباد، وكأن البعض يقارنهم بالحكام  المستبدين في العصر الحديث الذين يتبعون أهواءهم وشهواتهم ولا يطبقون شرع الله، ويتعاملون مع أعداء الإسلام ولا رادع لهم من دين أو خلق. فالمقارنة كلها ظلم وجهل.

ومن جهة أخرى كانت الحضارة العلمية والاجتماعية على أفضل ما يكون، فلماذا ينظر للصورة من جانب واحد ولا ينظر للعدد الكبير من العلماء والفقهاء ومن الأبطال الفاتحين. إن هذا التوقيت في الاستهزاء بتاريخنا جاء بعد انتفاش الباطنية والشعوبية في هذه الأيام، ومن هنا تأتي الشكوك والريبة في الذين يتظاهرون بالحيادية والتعالم ويتفاصحون أنهم لا يريدون إلا النقد المجرد. ولعل الخطل جاء من الاعتداد بالنفس ممن يكتب في التاريخ والإفراط في الثقة في فرضيات لم توضع على محك التوثيق. وفي كل تواريخ الأمم هناك الواجهة القاتمة لبعض السياسات الظالمة، وهناك الوجه الحضاري من نبل الرجال وعطايا الخير، يقول المؤرخ (ول ديورانت): “الحضارة نهر ذو ضفتين، يمتلأ النهر أحيانا بدماء الناس من الظلم والخسف، ولكننا نجد على الضفتين في الوقت ذاته أناسا يبنون الحضارة ولكن المؤرخين متشائمون لأنهم يتجاهلون الضفاف ويتعاملون مع النهر” (5)

لا أحد يمنع أحدا من نبش التاريخ إذا كان المقصود بيانا لحقائق أو تصحيحا لمعلومات خاطئة، أو نقدا للعبرة، ولكن ليس لتغلغل شعوبي باطني حاقد. أفسد الحياة الثقافية وجعل تاريخنا مما يدعو إلى اليأس والإحباط.

ما هو الميزان الذي نستطيع به أن ننصف الناس في أمور معقدة من نوازع البشر واختلاف الطبائع والوجهات إنه نوع من أنواع الميزان الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في تزكية الأجيال الثلاثة (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) “ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى ولا يداهن  في دين الله، ولا يأمر الناس بما يعلم أن الحق في خلافه ولا ينعت أحدا بصفة إلا بما علمه ربه وبما أنبأه..”(6) وليس هذا موضع تفصيل تاريخ كل خليفة من خلفاء بني أمية، ولكن هنا موضع للكشف عن أهواء الذين ينقضون غزلهم بعد قوة ، ويتبعون ما تعبث به أهواء الباطنية سواء علموا أم لم يعلموا، وذلك في إثارة الأحقاد والشغب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى التابعين وعلى العرب الذين أزالوا الدولة الفارسية ففي دولة بني أمية كانت بقية من الصحابة على قيد الحياة ، وكان جيل التابعين وتلامذتهم الذين نشروا الإسلام وعلموا الأجيال وإذا كان الذين ينفثون هذه الأحقاد من الشعوبيين الجدد يعتبرون أنفسهم مسلمين فإن إسلام أجدادهم كان على يد الفاتحين العرب. وكان التفاف الناس حول هؤلاء الفاتحين فيه خير كثير، وعندما ذهبت هذه القيادة تفتت الدولة إلى دويلات في العصر العباسي الثاني.

  • وإذا لم يملك الجرأة أحدهم لتحطيم التراث، فلا يسمى مجددا، بل هو تقليدي حسب عرفهم
  • جمهرة مقالات 2/972
  • محمد كرد علي: خطط الشام 1/167
  • تفسير المنار 4/204
  • دروس التاريخ /15
  • محمود محمد شاكر: جمهرة المقالات 2/ 989

العلماء وتأسيس الدول

د . محمد العبدة

 ( 1 )

في منتصف القرن الخامس الهجري   ظهرت في الغرب الإسلامي دولة المرابطين ، وهي دولة إسلامية كبرى لها شأن كبير في تاريخنا ، ولها باع طويل في حفظ الكيان الإسلامي في الأندلس ، ووحدت هذا الغرب تحت رايتها .

أسس هذه الدولة الشيخ عبد الله بن ياسين مع تلميذه وصاحبه يحي بن ابراهيم الجدالي أمير قبيلة جدالة الصنهاجية ، كان ذلك نتيجة تخطيط محكم قام به علماء الإسلام المغاربة ، بدءاً من الشيخ أبي عمران الفاسي الذي بدأ دعوته في مدينة ( فاس ) قائماً بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذه الفريضة هي من أصول الإسلام في السياسة الشرعية ، لأن معناها الإصلاح من جميع جوانبه . انزعج حاكم المدينة من دعوة الشيخ وطريقته ، فخرج أبو عمران من ( فاس ) واتجه شرقاً واستقر في مدينة القيروان ، وهي مدينة ليست غريبة على أبي عمران فقد تتلمذ فيها على شيخه أبي الحسن القابسي ، ولعل هناك سر آخر في اختيار هذه المدينة، فالراحلون الى المشرق للحج أو لطلب العلم يمرون بهذه المدينه ، وهذا ييسر لقاء الشيخ بالعلماء وطلبة العلم والتدارس في شأن المسلمين خاصة وأن حال المسلمين في الأندلس والمغرب وصل إلى درجة كبيرة في الضعف والتفرق . فالأندلس تحولت الى دول الطوائف وبعضها يستعين بأعداء الإسلام على إخوانه ليكسب البقاء أو ليتوسع  أرضاً على هوان وذل .

كان الشيخ يترقب الحوادث ويسبر غور الدعاة الذين يرسلهم لتعليم الناس ، ويفكر طويلاً بأمر الإسلام في هذا الجزء من العالم الإسلامي ، ولا شك أنه باحث طلابه وإخوانه حول السبل الكفيلة للخروج من هذه النوازل التي زلزلت كيان المسلمين . جاءت الفرصة التي قدرها الله سبحانه وتعالى وذلك حين زاره في رحلة العودة من الحج الأمير يحي بن ابراهيم ، وسمع من الشيخ وأعجب به . ودار الحوار حول أحوال البلاد وقبائل صنهاجة الصحراوية ، وسأله الشيخ عن العدد فأخبره الأمير عن سعة بلاده وما فيها من الخلق . ورأى الشيخ في هذا الأمير الطيبة والطبيعة التي لم يفسدها الترف ولم يبطرها القوة والسلطان وشكا الأمير الى الشيخ حالة قومه وبلاده وأنهم بحاجة إلى فقيه يعلمهم أمور دينهم ويجمع كلمتهم ، وطلب من الشيخ أن يرسل معه أحد تلامذته . استجاب أبو عمران لطلب الأمير وكتب كتاباً إلى أحد تلامذته الفقهاء العاملين وهو الشيخ ( وجاج بن زلو اللمطي ) ، الذي استقر في مدينة ( نفيس ) وأنشأ فيها مدرسة لطلب العلم . وكانت لفتة ذكية من الفقيه وجاج حين اختار لهذه المهمة شاباً ألمعياً من تلامذته وهو عبد الله بن ياسين الجزولي ، الذي قام بالمهمة خير قيام وتوجه الى منازل قبيلة جدالة ، وكان لها الرئاسة على القبائل الصنهاجية الأخرى : لمتونة ، سوفة ، جزولة ، لمطة ، كانت طريقة الشيخ ابن ياسين أن يعلمهم أمور دينهم ولكن لم يكتف بذلك بل أراد أن يهذب من طباعهم ويخرجهم من بدائيتهم ، وكان حاسماً معهم في أمر الدين لا يداهن في ذلك ، فلم يرضوا طريقته وشدته في الحق فخرج من بلادهم وعاد إلى شيخه وجاج يطلب النصيحة غضب الشيخ وجاج من تصرف هذه القبيلة وطلب من الأمير يحي أن يعاتب قومه على فعلتهم ، ندمت القبيلة على تصرفها وطلب من الشيخ العودة ولكنه رفض وذهب إلى جزيرة قريبة من الساحل في منطقة ( السوس ) في أقصى جنوب المغرب ( ربما تكون قريبة من مصب وادي السنغال ) وكان ذلك أيضاً باشارة من صديقه الأمير يحي . وفي هذه الجزيرة أسس الشيخ رباطاً وسمى أتباعه المرابطين ، وعندما رأى وفرة الرجال الذين وفدوا إليه لطلب العلم خرج بهم من الجزيرة مجاهداً فاتحاً القرى والمدن التي عشش فيها الجهل وتحكم فيها الزعماء الظالمون وبعد وفاة الأمير يحي بن ابراهيم ، كان الساعد الأيمن للشيخ ابن ياسين وأقرب الناس له الأمير يحي بن عمر اللمتوني وكانت قبيلته ( لمتونه ) من المؤسسين لدولة المرابطين .                                                                             وكأن العلماء والصلحاء من الناس ينتظرون مثل هذه اللحظات ، ففي عام 447هـ اجتمع فقهاء سلجماسة وفقهاء درعة وصلحاؤها وكتبوا الى عبد الله بن ياسين والأمير يحي يطلبون الوصول لبلادهم ليطهروها من المنكرات ، استجاب ابن ياسين واستولى على درعة ثم سلجماسة وأصلح أحوالها وأزال ما فيها من البدع وأسقط المغارم المفروضة على الناس وهكذا استطاع الشيخ أن يقود المرابطين لتوحيد هذا الإقليم ( الغرب الاسلامي ) تحت راية الشريعة ، ومن أعظم أعماله محاربته للفئة المنحرفة عن الاسلام ( البرغواطيين) في منطقة ( تامسنا )وقد استشهد في المعركة التي خاضها معهم  .

كان ابن ياسين هو الرئيس الفعلي للمرابطين ، وهو صاحب الدعوة ، ولكنه لم يختر أن يرأس الدولة الجديدة بل جعل رئاستها لصاحبه وشريكه في الدعوة الأمير يحي بن عمر وبعد وفاة يحي تولى الأمر أخوه أبو بكر بن عمر ولم يكن أقل من أخيه يحي حرصاً على الدعوة وامتثالاً لأوامر الشريعة .

اتسعت حركة المرابطين اتساعاً كبيراً ، ويذهب أبو بكر بن عمر للدعوة في الجنوب ، في مناطق السودان الغربي ( ما يسمى اليوم السنغال وما جاورها ) ويترك قيادة الدولة لابن عمه يوسف بن تاشفين ، لقد تخلى عن الحكم لأن الدعوة كانت همه الأول .

قام ابن تاشفين بأمور الدولة خير قيام واتخذ مدينة مراكش عاصمة له وغدت دولة المرابطين دولة واسعة قوية مرهوبة الجانب وعندما كانت الأندلس تتناثر قطعاً بأيدي ملوك الأسبان النصارى ، اجتمع علماء الأندلس ورأوا أن لا مناص من الاستعانة بالمرابطين . وطلبوا من ملوك الطوائف الكتابه لابن تاشفين في هذا الأمر . كان ابن تاشفين يعلم أحوال الأندلس وتفرق أهلها فاستجاب لطلب علمائها وزعمائها ، واعتبر ذلك فرضاً دينياً ، وعبر الأندلس بجيوشه المجاهدة ، ووحد صفوف الأندلسيين ، وكانت معركة الزلاقة المشهورة التي انتصر فيها المسلمون انتصاراً ساحقاً ، وتوقف الزحف الاسباني على المدن الاسلامية لعقود قادمة .

لم يكن لابن تاشفين مطمع في الأندلس ولا في الغنائم التي تركها العدو ، تركها لأهل الأندلس ورجع الى عاصمته مراكش ، ولكن أمراء الأندلس نكسوا وعادوا الى طبيعتهم من التنازع والتفرق ، ويضطر ابن تاشفين للعودة مرة ثانية الى الأندلس ليقضي على الدويلات المتهارشة على الدنيا .

تربى ابن تاشفين في مدرسة عبدالله بن ياسين وهي مدرسة تربوية جهادية لا تستهويها المناصب ، فالذي ناصر وأسس مع ابن ياسين ذهب الى الجنوب والغرب الافريقي ليدعو أهلها الى الإسلام وترك الحكم لابن عمه .

تأسست دولة المرابطين على الخير والإخلاص وكان للعلماء فيها المكانة العالية .

ولذلك تتهم هذه الدولة من المستشرقين وبعض تلامذتهم بأنها دولة عسكرية وليست حضارية ، أهل الحكم فيها جفاة يحاربون الاتجاهات الفلسفية ، فالمهم عند هؤلاء هو انتشار الفلسفة ، وأهل الانصاف يرون أن هذه من مزايا المرابطين لانهم يهتمون بالعلم والعمل وليس بالجدل الكلامي ، يهتمون بالفقه وتطبيق السنه ، وهي دولة دعوية أرسلت الدعاة الى ممالك السودان فأسلم بعض ملوكهم ، وفي عهدهم أصبحت العاصمة مراكش مليئة بالعلماء الذين وفدوا اليها من كل حدب وصوب بسبب تشجيع المرابطين للحركة العلمية ، وفي تاريخ المسلمين ، كان للعلماء دور كبير ، فإما أن يضعوا الأمر في نصابه ويعيدوا للأمة حيويتها ونضارتها وإما أن يتركوا مهمتهم التي ندبوا اليها فيعم الجهل والنسيان . ومع الأسف لم تطل مدة بقاء هذه الدولة فقد حاربها وبقوة الذي ادعى المهدوية محمد بن تومرت وأجلب عليها قبيلته المصامدة وقضى على دولة المرابطين في فترة كانت الأمة الإسلامية بحاجة الى التوحد وتكريس الجهود لامتداد الاسلام والوقوف في وجه الزحف الأوروبي الآتي من الشمال .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ــ وهو قرن الإحياء السني ، ففي المشرق أنقذ السلاجقة الخلافة العباسية من تسلط البويهيين الشيعة ، وفي

    الغرب الإسلامي قامت دولة المرابطين .

حين تُفتَقد الشجاعة

                                       

د . محمد العبدة

 

سألني أحد الأخوة عن أحداث أوكرانيا التي تتصدر واجهات الإعلام في هذه الأيام ، قلت له : إن روسيا تقف أمام غرب جبان ، لا يتحدث إلا عن الحلول الدبلوماسية والضغوط الاقتصادية ولذلك فهو يستبعد أي حل عسكري سواء لمشكلة اوكرانيا أو غيرها في العالم .

رئيس روسيا يعلم هذا ولو احتل شبه جزيرة القرم ، فلن يتحرك الغرب سوى بالضغوط الاقتصادية والسياسية ، وهذا أمره سهل ، أما مساعدته للنظام المجرم في سورية فلا نستطيع أن نقول انه يتحدى الغرب في هذه المنطقة ، لأن الغرب وكأنه راض عما يحدث للشعب السوري المسلم السني .

لقد فقد الغرب في السنوات الأخيرة السياسيين الذين يملكون شيئاً من الشجاعة في اتخاذ القرار ، وقد عبر عن هذه الحالة الكاتب الروسي الهارب من جحيم الشيوعية (سولجنتسن) في ندوة نظمتها جامعة هارفارد ووصفها بأنها ( زوال البأس ) في الطبقة الحاكمة وعند نخبة المفكرين في الغرب ، وتابع يقول : وإذا كان هناك أفراد فيهم شجاعة وبأس ولكنهم لا يلعبون أي دور مسؤول في الحياة السياسية .

إن كلام الكاتب الروسي يدل على فهم عميق للمجتمع الغربي ، فالرفاهية وهي إحد الأسباب سواء في الغرب أو غيره من البلدان سوف تنتج أجيالاً لا تملك الشجاعة في اتخاذ القرار .

وأما الأسباب الأخرى ( عندنا في الشرق خاصة ) فهي العيش في أجواء الظلم والقهر وعقم التربية في المنزل والمدرسة ، فهذا مفسد للبأس وذاهب بالمنعة كما يقول العلامة الاجتماعي ابن خلدون .

هذا الصنف من القيادات الذين ألفوا الضعف والخور يسمون ما هم فيه حكمة وعقلاً ، ومسالمة وربما يسمونه ذكاء ودهاء ، وأن غير ذلك من الأمور هو الدخول فيما لا يعني وإلقاء النفس في التهلكة ، وفي السياسة هناك أوهام ذات عربدة وضجيج ، ترعب أصحاب القلوب الخاوية كهلع المنافقين عندما تحدثوا عن استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك ، قالوا : كيف نحارب بني الأصفر ( الروم ) .

وكهلع السياسيين في سورية في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي من ضباط الجيش ، ولذلك لم يقوموا بأي عمل يمنع من تسلط العسكر ومجيء حزب البعث ثم الحكم الطائفي الذي ركب موجة البعث .

الشجاعة فضيلة عظمى ، فالشعوب لا تفرح للذكاء بقدر ما تفرح للشجاعة التي يقدرونها أكثر من غيرها ، بل الشجاعة هي أم الفضائل لأنها هي التي تساعد على الصبر ، وعلى النصر ، وفي زمن عز فيه البطولات تتطلع الشعوب إلى شجعان يقولون الحقيقة عارية واضحة ، فهذه الشجاعة الأدبية تشفي أمراض الفساد ، وتبعد الخوف الذي يجعل بعض الطغاة يحكمون الناس وهم في قبورهم .

الشجاعة مطلوبة وخاصة في هذه الأيام ، وفي الظروف السيئة التي تحيط بالمسلمين في كل مكان .

الشجاعة تؤدي إلى قرارات حاسمة ويمكن أن يقال فيها لا . والرفض هنا ليس سلبياً ولا هو عناداً ولكن (لا) تأتي بعد الدرس والتمحيص ، ولأن وراءها (نعم) لما يُراد وما يُبتغى ، ومن أعظم الأمثلة على هذه الشجاعة ما قام به الصديق رضي الله عنه حين أصر على مقاتلة المرتدين رغم معارضة بعض الصحابة ، وكان موقفه هو الصواب .

بعض السياسيين عندنا لا يدركون أهمية ( لا ) في الوقت المناسب ، وأنها رفض لواقع سيء ، وقد يكون هذا رادعاً للعدو مرضياً للصديق .

بعض السياسيين في بلادنا يملكون أوراقاً كثيرة ولكنهم لا يستفيدون منها في مواجهة الآخرين ، أو لا يستفيدون منها في تقوية جانبهم وتثبيت دولهم وذلك لأنهم مقيدون بسلاسل الخوف ، لماذا لا يقول الائتلاف السوري (لا) لجنيف (2) وما بعده ، ويقولون للغرب وللعالم ، لا نقبل هذه المراوغة والمراوحة والشعب السوري يقتل كل يوم آلاف المرات .

ولماذا لا تقول المعارضة السورية للذين يسمون أنفسهم أصدقاء سورية أين أنتم ، وماذا فعلتم للشعب السوري ولماذا لا يكون عندكم شجاعة لقول الحق ، أليس هذا أفضل من كثرة الاجتماعات بلا طائل .

إنّ شر ما في الإنسان أن يكون بخيلاً وجباناً ، كما جاء في الحديث ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( شرما في المرء شحٌ هالع وجبنٌ خالع ) والجبن الخالع هو الذي يزلزل القلب ، وعندئذ يضيع تدبير العقل وتوضع الأمور في غير مواضعها . والخوف يأتي من حب الحياة ورغد العيش وهو ما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم ونعت به هذا الصنف من المسلمين بأنهم غُثاء كغثاء السيل .

الحق والباطل


د.محمد العبدة

 

حين يظهر الحق واضحا جليا لا لبس فيه ولا خلط، وحين يظهر الباطل جليا مكشوفا بارزا، حين نرى أناسا لا يريدون الاسلام صراحة ويعارضونه بشتى أساليب الكذب والتشهير ويتقربون للغرب بأنهم يحاربون (الإرهاب)، الإرهاب الذي تحول إلى صناعة يتقنها الذين يريدون تحقيق أهدافهم. حين ذلك وفي هذا الوضوح تبدأ المعركة الحقيقية، ومن هنا يبدأ النصر، فالذي في قلبه مرض سينحاز للباطل ونعرفه، والذي في قلبه إيمان وأخلاق وإنسانية سينحاز للحق ونعرفه وسيصبح مساعدا ومؤازرا ونصيرا.

وقد وضح هذا الحق عندما ثار أهل السنة في العراق على الظلم الواقع بهم، وعندما أيد الغرب حكومة العراق في قمعها لأهل السنة، وعندما سكت الغرب عن جرائم النظام السوري، وعندما أيد الانقلاب في مصر. إن الذين يقولون للعسكر: (أكمل جميلك) والذين تعودوا على الخضوع للعسكر والذين يرددون دون عقل ولا ضمير ما يقال في الإعلام. هؤلاء ما هويتهم وما منبتهم ومن أي الأسر والقبائل وكذلك أمثالهم من السوريين الذين يقفون مع (بشار) وزمرته بعد كل الذي حدث من قتل وتدمير وتشويه للإنسان. إنه انحطاط نفسي وخلقي كان أمثالهم في الجزائر أيام الاستعمار الفرنسي يقولون: (أمنا باري (باريس) احفظها يا باري)!! وكان أمثالهم أيام حرب الخليج الثانية يكادون يقبلون أيادي (بوش).

   من أين أتت هذه النفسية المهزومة المأزومة، ومن أين أتت هذه الوحشية من قبل الشرطة والعسكر، يقتلون أبناء بلدهم وبدم بارد، كيف يتسنى لضابط في الشرطة أن يصوب ناره على أعين المتظاهرين خاصة، وقناص النظام في سوريا يصوب بندقيته على الجنين في بطن الحامل.

من ربى هؤلاء على أن لا يحملوا في نفوسهم أي معنى من معاني الإنسانية أو الأخلاقية، لماذا في منطقتنا خاصة يوجد هذا النوع من البشر لم نر جيشا في أوكرانيا او غيرها يقتل الناس بمثل هذه الوحشية التي عندنا، هل الاستبداد الطويل هو الذي أنتج هذا النوع من البشر، أم إنهم من النوع الذين يعملون الشر وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، لقد ضل سعيهم وخابوا وخسروا إن كانوا يظنون ذلك.

والسؤال الآخر : لماذا هذا التنافر الشديد بين أفراد الشعب الواحد، هل لأن المنطقة العربية وبسبب موقعها تستقبل موجات من الأعراق المختلفة من الشرق والغرب وهذا أدى إلى فسيفساء عرقية ودينية، وكل يتعصب لعرقه أو دينه تعصبا لم يبن على عقل أو علم، وتنشأ عند ذلك العزلة والخوف من الاخر. لماذا لم تنصهر هذه الشعوب في بوتقة الحضارة الاسلامية حتى يكون الحوار والمنطق هو الذي يسود العلاقات والخلافات، بل نشاهد أنهم لا ينصهروا في بوتقة الوطنية التي تعني الحرص على البلد أرضا وسكانا واستقلالا، لأننا نشاهد من تصرفات المستولين على الأمور ما يناقض الوطنية وكأن هدفهم هو التخريب.

إن الأمة لا تتقدم دون هذا الانصهار في مفهوم واسع ومحدد، لتكون الوجهة واحدة ولا يقع التفتت والتشرذم تحت مسميات التعددية الثقافية والعرقية، ولا يتم الانضاج الحضاري دون التجانس والتوحد، وهذا لا يعني إلغاء المكونات الجزئية قال تعالى: ((وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)) فالمقصود النهائي هو التعارف وهو التكامل والتوحد.

إن غفلة الشعوب التي لم  تمارس الفعل السياسي منذ أمد بعيد ولم تعرف خبايا ودهاليز السياسة، وكيف يخطط أعداء هذا الدين، وما هي الاساليب التي يستعملونها، هذا الغفلة هي التي أدت إلى الخدعة الكبرى التي وقعت لثوار “يناير” في مصر فقد ظهر الجيش وكأنه يقف على الحياد، وكأنه يحمي الثورة وصدق الناس ذلك ولكن الحقيقة كانت كما عبر وزير الشؤون القانونية في عهد الرئيس مرسي بأنه كان انقلابا، انقلاب على مبارك وتسلم السلطة من قبلهم، وهكذا رتبوا الأمور ثم شغلوا الناس في الانتخابات وعندما جاء الوقت قام الانقلاب العسكري على حكومة مرسي، لقد أزاح الثوار رأس النظام ولم يزيحوا النظام، ولم يدرسوا الخطوات العملية لإزاحة كافة أركان النظام.

وإنه من الغفلة أيضا أن يظن البعض أن أمريكا والغرب الغرب  عموما يفضلون للمنطقة العربية نظاما تعطى فيه الحرية للناس، لقد عادت أمريكا لتأييد الانقلابات العسكرية كما فعلت سابقا مع عبد الناصر ومع الانقلابات في سوريا. إن أقطاب السياسة المحترفون لها يعلمون كيف يؤثر الإعلام في نفوس الضعفاء وما يحدثه من أوهام في عقولهم فيضخم ما يسميه (الإسلام السياسي) وأنه سيطر على كل شيء. بعد هذا الدجل السياسي الذي مارسه الإعلام المؤيد للعسكر علم الناس الحقيقة وظهر الحق واضحا ، هنا وفي هذه اللحظة يجب على الذين يقاومون الاستبداد ولا يريدون أن ترجع البلاد إلى الوراء، أن يتقنوا فن المقاومة السلمية بشتى أساليبها وأنواعها ، وأولها التوحد نحو الأهداف الكبيرة والتماسك الاجتماعي ، وسلامة الصدر من الخلافات الصغيرة .

إن ثقافة المقاومة السلمية لا تعني المظاهرات والمؤتمرات فقط ، بل تعني أيضا مقاومة ثقافة التغريب التي تعتمد على نشر الفساد وإلهاء الناس بالتافه من الأمور ، وتعتمد على أكل السحت وإثراء طبقة معينة تتحالف مع اهل الحكم ، وثقافة المقاومة السلمية تعني عدم الاعتراف بسيطرة الخصم ، لأنه عند هذا الاعتراف يصبح الإنسان فريسة سهلة تؤثر فيه الدعاية ويميل للإحباط .

ثقافة المقاومة أن يكون هناك مراجعة دائمة لسير الأمور ومعرفة الأخطاء والاعتراف بها ووجود مراكز بحث تنظر للعمل السياسي ، وثقافة المقاومة تعني فضح كل أساليب الديكتاتورية وتعليم الناس المطالبة بالحرية والعيش بالكرامة التي تليق بالإنسان .