ماوراء التاريخ تداعيات الثورة السورية

د. محمد العبدة

ما وراء التاريخ مصطلح يذكره المؤرخون وخاصة الغربيون منهم ويقصدون به الحوادث الخفية التي تجري وراء ظاهر الماجريات التي يراها الناس ويرصدونها ، وهذه الحوادث سوف تؤدي في المستقبل إلى تحولات كبيرة لم يتوقعها المهتمون بمسيرة الأحداث وصراعات البشر ،ونحن المسلمين نقول : هو تدبير الإرادة الإلهية ، ومشيئته تعالى ويده الخفية في مسار تاريخ البشرية ، واستدراجه لمن وقع عليه قدر الله ويستحق هذا الاستدراج ، وبعض المؤرخين يبتعدون عن ذكر الدين أوسنن الله في الكون إما ليظهر أنه لا يعتمد التفسير الغيبي ( الميتافيزيقيا ) أو للتظاهر ب ( الموضوعية ) والحيادية ، ولكن كل هذا لا يحجب الحقيقة وهي أن لله سننا كونية في المجتمعات والأفراد ، وسننا في التحولات الكبرى في تاريخ البشرية .

ذكر القرآن الكريم أمثلة لهذا التدبير الإلهي ، قال تعالى ذاكرا صراع الروم والفرس وموقف المسلمين من هذا الصراع :

’’ألم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين  لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ،، الروم 1-5

إن انتصار الروم على الفرس هو إضعاف للإمبراطورية الفارسية وهي القوة الكبرى على الساحة الدولية يومئذ ، وهي قوة مخيفة ، فلما كسرت شوكتها كان ذلك تمهيداً وايذاناً بانتصار المسلمين على هذه الإمبراطورية والقضاء عليها قضاءً نهائياً ، وهذا أحد أسباب فرح المسلمين بانتصار الروم . ومن جهة أخرى فإن هذا الانتصار الذي تحقق للروم ربما يكون قد استنفد قوتهم وأنهك جيوشهم وهذا مما مهد الطريق أيضاً لانتصار المسلمين عليهم وفتح بلاد الشام ومصر وغيرها من البلاد التي كانت تحت نفوذهم ، روى ابن أبي حاتم عن الزبير الكلابي قال : رأيت غلبة فارس الروم ثم رأيت غلبة الروم فارس ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم .

كما جاء في سورة آل عمران وسورة الأنفال حول غزوة بدر وكيف أراد الله سبحانه وتعالى هذه المعركة ، وأراد من المسلمين أن يصارعوا الكفر مبكراً لأمر يريده ، ولم تكن وجهة المسلمين في البداية للقتال ولكن لأخذ القافلة ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ) الأنفال / 7

لقد استدرج الله سبحانه الكفار لتقع المعركة التي يريدها ، وذلك بأن قلل المسلمين في أعينهم حتى يتجرأوا عليهم ، وقلل الكفار في أعين المسلمين ليتجرأوا ايضاً، أي أن الله أغرى كلاً من الفريقين بالآخر ( إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور . وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وإلى الله ترجع الأمور ) الأنفال / 43 -44

وهذا من لطف الله وتدبيره لأن في هذه المعركة ظهر الإسلام وانتكس الكفر والشرك ، وانتقم الله من أعدائه ، والذين حضروها من الصحابة هم خير أجيال المسلمين .

وكما جاء في سورة الحشر التي تتحدث عن غزوة بني النضير وكيف قام اليهود بتخريب بيوتهم بأيديهم . وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه ومقدماته ، وتأتي الحوادث إرهاصات لتحول كبير يكون له الأثر الواضح في التاريخ .

قبيلة تركية تطرد من موطنها ،وتهاجر إلى مكان هو جزء من دولة السلاجقة في بلاد الروم ( الزاوية الشمالية الغربية من تركيا اليوم ) ولكن هذه القبيلة التي خرجت فارة من جيرانها سيكون لها دور كبير في تاريخ المسلمين ، من هذه البقعة سيكون تأسيس الدولة العثمانية التي عاشت أكثر من سبعة قرون وفتحت أجزاء كبيرة من قارة أوروبا ، وفتحت مدينة القسطنطينية التي بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بفتحها .

هل إرادة الله سبحانه وتعالى وتدبيره الخفي هو الذي جرَ ايران الرافضية وحزبها في لبنان لأتون المعركة في سورية ، وذلك حتى ينكشف أمرها وأمر حزبها ، وتتعرى أمام العالم الإسلامي بأنها دولة عدوانية مجرمة لا تختلف عن أجدادها القرامطة والحشاشين .

إيران التي حاولت تلميع وجهها أمام العرب والمسلمين حين كانت ترفع من وتيرة العداء لإسرائيل ظاهرا وتقيم العلاقات الحميمة معها باطناً ، كان ذلك زمن الشاه وزمن الملالي ، وقد ساعدتها اسرائيل في حربها مع العراق ، وكانت تمدها بالسلاح وقطع غيار طائرات ( الفانتوم )

وتضغط على أمريكا لتحسين علاقتها مع إيران , وإيران هي التي ساعدت إسرائيل بالخرائط والمصورات  لضرب المفاعل النووي العراقي ، كل هذا أصبح مكشوفاً معروفاً . ( انظر كتاب حلف المصالح المشتركة العلاقات السرية بين ايران واسرائيل وأمريكا ) لتريتا بارسي .

إيران التي كان هدفها وما يزال أن تكون قوة إقليمية مهيمنة لها دور كبير في أحداث المنطقة ، وأمنيتها أن تتقاسم الهيمنة مع أمريكا  ، وتبادلها أمريكا بالاعتراف بهذا الدور ، وهذا محقق وخاصة في عهد ’’ أوباما‘‘ ، وإلا كيف يسكت الغرب وأمريكا عن احتلالها للعراق ، وشركاؤها النصيريون محتلون لسورية ولبنان .

إيران التي اختبأت وراء شعارات إسلامية ومؤتمرات القدس ظهرت على حقيقتها ، وظهر وجهها القبيح بسبب الثورة في سورية ، وكذلك حزبها في لبنان الذي حاز على شعبية كبيرة في العالم العربي ’’ مع الأسف‘‘ بسبب ضعف الوعي السياسي ، وقبل ذلك بسبب ضعف الوعي الديني ، فالشعوب العربية لم تتلق الثقافة المطلوبة في فهم أعداء الأمة ، ولم يُقرأ عليها التاريخ وكيف فعل هؤلاء بالمسلمين ؟

وكيف وقفوا مع أعداء الإسلام دائما ؟

إن مكر هؤلاء يخفى على كثير من الناس ، ولا يعلمه إلا من عرف عقائدهم وتاريخهم .

 استطاع الحزب أن يخدع كثيرا من المسلمين ، ومن الطبيعي أن يخدع كثيرا من القوميين الذين يتميزون بالسطحية في التفكير السياسي .

والسؤال أيضاً : هل انجرار هؤلاء إلى أرض المعركة في أرض الشام ، سوف يؤدي ليس إلى انكشافهم فقط ، بل إلى ضعفهم وانحسار ظلهم , وتكون نهاية تكبرهم وغرورهم وظهورهم على الساحة العربية الإسلامية .

وهل هذه الأحداث الكبيرة التي تجري على أرض الشام هي تطهير لهذه الأرض المباركة من الزغل والمنافقين والرافضة الباطنية ؟!

حتى تكون هذه الأرض خالصةً نقية ، وموئلاً للمسلمين حين تقع الملاحم الكبرى ؟

وهل تأخر النصر في سورية  وعدم الاعتماد على دعم الدول الغربية المنافقة , مما يجعل هذه الثورة معتمدة على الله وحده , فالغرب لا يهمه عدد المجازر ولا هدم المدن بالطائرات ( وهذا مخالف للقانون الدولي )

الذي يتظاهرون باحترامه , ويعدون وفي اليوم التالي يتهربون .

لقد انكشف هذا الغرب أيضا وخاصة أمريكا ، وقالها أوباما صراحة ً : ليست مهمتنا مساعدة وحفظ المسلمين السنة  ،’’ مقابلة تلفزيونية‘‘، وهذا طبيعي لأن إيران مستعدة لكل شيء إذا قاسموها الكعكة في المنطقة العربية .

هل هذه إرهاصات تتلوها إرهاصات أخرى ، نحن لا نجزم هنا ولا نقع في التأويل والإسقاط الذي لا نستطيع التأكد منه ، ولكنها رؤية مستقبليه ، ونظرات في سنن الله الكونية التي لا تتخلف ولا تتبدل ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

الإعلان

فتن الباطنية وأثرها في التاريخ الإسلامي

(1)
مقتل عمر رضي الله عنه

ليس من المبالغة أن نقول : إنه لا يوجد أمة من الأمم ابتليت بشيء أو بعداوة كما ابتليت الأمة الإسلامية بـ ( الفرق الباطنية)التي تبطن الكفر المحض وتتظاهر بالإسلام ، وتعمل من الداخل على هدم الإسلام بطرق شتى ووسائل مختلفة ، وهذا البلاء مستمر حتى اليوم وليس تاريخاً مضى وانقضى ، وهذه الفِرَق ليس لها مثيل عند الأمم الأخرى ، فالفتن والهرج هناك غالباً ما يكون سياسياً أو مذهبياً واضحاً ، أما في الأمة الإسلامية فإن التخريب من الداخل وباسم الدين أيضاً ، وهو داء خفي قد لا يتنبه له بعض الناس ، والتخريب ليس من جهة واحدة بل من عدة جهات : العقائد الفاسدة ، الدس والتشويه في نصوص القرآن والسنة ، الدس والتشويه في التاريخ الإسلامي ، الشعوبية ضد الجنس العربي ، التحالف مع الأعداء … الخ .

وقد تنبه لهذا الاستثناء في العداوة من قبل هؤلاء المؤرخ الأمريكي ( ول ديورانت ) يقول عن الباطني الذي قتل الوزير السني ( نظام الملك ) : وكان هذا القاتل عضواً في طائفة من أعجب الطوائف في التاريخ ، وكان نظام الملك قد اتهم هذه الطائفة في كتابه ( سياسة نامة)  بأن زعماءها من نسل المزدكية الشيوعية أهل فارس الساسانية ” (1) وهو يعني طائفة الحشاشين الإسماعيلية ورئيسها الحسن الصباح صاحب قلعة ( ألموت ) في ايران . وقد صدق الشيخ رشيد رضا عندما قال : ” وإنني أعتقد منذ عقلت أن دسائس المجوس هي التي فرقت كلمة سلفنا ودسائس الإفرنج هي التي فرقت كلمة مسلمي عصرنا ” (2) ويقول أيضاً : ” الذي أستنبطه من طول البحث والمقارنة أن أكثر الذين خالفوا نصوص الشريعة بأقوالهم وكتبهم من لابسي التصوف هم باطنية في الحقيقة ثم قلدهم كثير من المسلمين وهم لا يعرفون أصلها ” (3) ويتابع الشيخ حديثه عن الباطنية : ” لو أنّ المسلمين بذلوا من العناية لإعادة الخلافة إلى نصابها عُشْر ما بذلت فرق الباطنية لإفسادها لعادت أقوى مما كانت وسادوا بها الدنيا كلها ” (4). هذه الفرق وهذه الفتن كان أساسها في الغالب من المشرق ولها صلة بمجوس فارس ، وهي مصداق لما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيده نحو المشرق فقال : ” ها ، إن الفتن من ها هنا ها ، إن الفتن من ها هنا ، إن الفتن من ها هنا ، من حيث يطلع قرن الشيطان ” (5) وإن وقائع التاريخ الإسلامي التي سجلت فتن الباطنية ومحاولاتهم لهدم الإسلام هي مما جعل العلماء يصارحون الأمة بما فعله هؤلاء وما زالوا يفعلون ، يقول ابن تيمية : ” فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد ، فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة .. ” (6) إقرأ المزيد

والعاقبة للمتقين

والعاقبة للمتقين

من السنن الكونية التي لا تتبدل ولا تتحول، والتي تكرر ذكرها في القران الكريم قوله تعالى تعقيبا على قصته فرعون مع موسى عليه السلام (تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، والعاقبة للمتقين) [القصص/83] وقوله تعالى بعد ذكر قصة نوح عليه السلام مع قومه (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك، فاصبر إن العاقبة للمتقين) [هود/49]

هذه سنة من سنن الله تعالى (العاقبة للمتقين) ولكن من هم المتقون الذين تنطبق عليهم هذه السنة؟ يقول الشيخ رشيد رضا معقبا على هذه الآيه” أي الذين يتقون اسباب الضعف والخذلان والهلاك، كاليأس من روح الله والتنازع ، والفساد في الارض والظلم، ويتلبسون بضدها وبسائر ما تقوى به الامم في الاخلاق والأعمال واعلاها الاستعانة بالله والصبر على المكاره مهما عظمت” (1)

لن يفهم حركة التاريخ وما يصيب أهل الحق من ابتلاء ثم تكون لهم العاقبة، وما يصيب أهل الشر من المحق والإذلال ولو بعد حين، لن يفهمها من يجهل هذه السنة، ولا تسقط الامم ويمحى اسمها من التاريخ الا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها الله سبحانه لحكمة بالغة.

وقد تكرر ذكر نصر الله للحق والمحقين والانبياء والمرسلين، وان العاقبة لهم، بعد الابتلاء والصبر (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وأن جندنا لهم الغالبون) وقال تعالى (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) وجاء في الحديث ( وكذلك الأنبياء تبتلى ثم تكون لهم العاقبة) هذه السنة يجب أن يتعقلها المسلمون لأن ضعاف العقول يتعلقون بالظاهر الحاضر دون وعي لمصير تلك المظاهر ودون وعي لمآلاتها أخيرا.

إن عامة الناس تعرف مصير الأمور بعد فوات الأوان، فقوم قارون تمنوا مكانه بالأمس ثم ندموا على هذا الفعل بعد هلاكه، وفي واقع الحياة وواقع التاريخ فإنه ما من عمل أو فكرة مرذولة إلا وتنال عقابها أو زوالها إن آجلا أو عاجلا، ولا توجد هزائم غير مستحقة لأنها السنن العادلة التي لا تظلم أحدا، ((وقد يستطيع الخونة الإساءة إلى غيرهم ردحا من الزمن غير أن القضاء الحكيم يتربص بهم)) (2) وكما يقول الحكماء: “تستطيع أن تخدع بعض الناس بعض الوقت وتستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت”

وحتى يعتبر الناس بهذه السنة أبقى الله سبحانه وتعالى عقوبات الظالمين المشركين آثارا يراها الناس كلما مروا عليها ولعلها تكون عبرة لهم (وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم)

إنها سنة أيضا أن عاقبة المكذبين المجرمين الهلاك والدمار (قد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) وقال تعالى (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين)

وقال: (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) إنه مشهد لقرية أسلمها الفسق إلى الخراب، والقرآن يعرض هذا المشهد ليقدم نموذجا عن المصير الذي ينتظر من يفسق عن أمر ربه.

ومن العبر الواضحة المعروفة في تاريخنا ان الذين شاركوا في قتل سيدنا عثمان بن عفان (رضي الله عنه) انتقم الله منهم في الدنيا من امثال: جهجاه بن سعيد الغفاري وحرقوص بن زهير السعدي وحكيم بن جبلة العبدي وعمير بن ضابئ وكنانة بن بشر، وأما قتلة الحسين رضي الله عنه فقد سلط الله عليهم المختار بن أبي عبيد الثقفي حيث تتبعهم في دورهم في الكوفة وهدم عليهم بيوتهم أو قتلهم. وفي الأندلس حدث أن قام العلماء والعامة بثورة على الحكم الربضي وفشلت هذه الثورة مما جعل الحكم ينتقم منهم ويقتل الكثير ويشرد الباقي خارج الأندلس ، كان ذلك عام ( 202 ) للهجرة ، يقول المؤرخون : ” ولم ينل الحكم بعد وقعة الربض حلاوة العيش وامتحن بعلة طاولته أربعة أعوام واحتجب فيها آخر مدته ” ( 2 ) وتطول قائمة الحكام الظلمة المستبدين وكيف أهلكهم الله وأكبهم على وجوههم وكيف عاشوا مشردين بعد أن أزيحوا عن كراسيهم ، وما قصة الضباط الذين شاركوا في تعذيب الإسىلاميين في مصر في عهد عبد الناصر ببعيدة ،لقد كانت نهايتهم إما قتلا أو دخولا للسجون التي كانوا يعذبون الناس فيها .

إن ماوقع أخيرا من نهاية للحكام الظلمة الذين حكموا بعض البلاد العربية بالقهر والسجون وتبديد الثروات ومحاربة العلماء والدعاة هو عبرة لمن يعتبر ، كان بإمكان رئيس مصر أن يعلن انسحابه استجابة لرغبة الشعب وسيسجل له هذا الموقف ولكنه الخذلان وسنن الله في الإحاطة بالظالمين فلا يقدرون على الأفعال الحسنة عقوبة لهم على تصرفاتهم وما اكتسبوا من الإثم ، وكان بإمكان الشيخ القابع في دمشق وأمثاله الذين يؤيدون النظام السوري في إجرامه وقتله للمسلمين ، كان بإمكانهم أن يجلسوا في بيوتهم ويبتعدوا عن الفتنة ولكنه الخذلان للذين يكنون الحقد للحركات الإسلامية التي تتبع المنهج السليم ولعقيدة أهل السنة . وإذا عدنا إلى الوراء ، إلى التاريخ مرة ثانية فإنه كان بإمكان قريش أن ترجع ولاتصل إلى بدر وتصطدم مع المسلمين وتسلم مما وقع لها من هزيمة في المعركة الفاصلة ولكنه المصير الذي يريده الله سبحانه وتعالى للجاهلية المتكبرة .

إنه الإنسان الذي يخفي قصور ذكائه بما يزعمه من إحاطة علمه ، ولكنه في الحقيقة جاهل بسنن الله المقروءة والمشهودة في التاريخ  .

1-   تفسير المنار 9/578

2-   الحلة السيراء لابن الأبار 1/46

المسلمون والخلافة الراشدة

(إن الأمر العظيم لايسهل دائما الإحتفاظ به )
قول مأثور
بقيت ذكرى الخلافة الراشدة في أذهان المسلمين حاضرة دائما ، ومافتئوا يقيسون كل حاكم أتى بعد ذلك على هذه الفترة المضيئة السامقة ، بل يقيسون على فترة أبي بكر وعمر خاصة ، وقد استشرف هذه الحالة علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما رأى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يداوي إبل الصدقة بيده فقال : ” لقد أتعبت الخلفاء بعدك ” وقد صدق رضي الله عنه ، فهذا الخليفة الذي ترتجف منه الفرس والروم وفتحت في عهده بلاد فارس والعراق والشام ومصريداوي إبل الصدقة بيده ،وملبسه خشن ومأكله خشن وينام بلا حرس ولا جنود ، هذا لم يعهد أبدا في الدول والحكومات . والمسلمون الذين طالبوا عثمان رضي الله عنه أن يكون مثل عمر في كل شئ ،هؤلاء لايدركون أن هذامخالف لطبيعة وتكوين كل شخص عدا عن صعوبة الأمر بحد ذاته لتميز عمررضي الله عنه بشخصية فذة عبقرية ، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما ربى أصحابه لم يكن ليغير من طبائعهم واستعداداتهم ، ولم يجعلهم نسخا متماثلة ، ولكنه فجر طاقاتهم وأطلقها في الاتجاه الذي يخدم الإسلام ،فعبدالله بن مسعود فقيه عالم ، وخالد فاتح عظيم ، وأبو هريرة حافظ للسنة . لقد اجتهد عثمان في تولية أقاربه وكانوا أكفاء لهذا العمل ولكن عمر لم يفعل ذلك وهذا افضل وأحوط لسياسة الدولة.
إذا كانت الخلافة الراشدة هي القدوة وهي النموذج، فإن الذي جرى على أرض الواقع هو أقل من الخلافة الراشدة، والاستمرار على هذه القمة السامقة لم يتحقق ،فالإنسان مركب على النقص والضعف ، ولذلك تحولت الآمال إلى درجة أودرجات دون الخلافة الراشدة ولكن مع بقاء العمل بالشريعة والحماية للأمة والحرص على العدل واستقلال القضاء . ذلك لأن هذه الخلافة نموذج فريد في تاريخ البشرية، ومتى عاشت البشرية _ بعد عهود الأنبياء _ في ظل حكم مثل حكم أبي بكر وعمر، وطريقة عيش هؤلاء الخلفاء معروفة وهي أشهر من أن تسطر هنا .
هذه النظرة الواقعية لما بعد الخلافة الراشدة هي التي جعلت الإمام الذهبي يتحدث عن آماله في القرن الثامن الهجري يقول:” ونحن آيسون اليوم من وجود إمام راشد من سائر الوجوه، فإن يسر الله للأمة بإمام فيه كثرة محاسن وفيه مساوئ قليلة فمن لنا به؟”1
و تحدث أبن تيمية عن ملوك بني أمية و بني عباس: “ما قال أهل السنة أن الواحد من هؤلاء كان هو الذي يجب توليته و طاعته في كل ما أمر به، بل كذا وقع، فيقولون ( أهل السنة): تولى هؤلاء، وكان لهم سلطان وقدرة، وأقاموا مقاصد الإمامة من الجهاد وإقامة الحج و الجمعة والأعياد وأمن السُبل، ولكن لا طاعة في معصية الله” 2
ويقول أيضاً في معرض الحديث عن توليه الأصلح “فإذا تعيين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوةً قُدم أنفعهما لتلك الولاية وأقلاهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً”3
يتولد من عدم فقه هذا الأمر أن المسلمين اليوم لا يحققون شيئاً على أرض الواقع وإنما يلوذون دائماً بعالمٍ غير متحقق، وإني لأحسب أن المسلمين اليوم يجمح بهم الخيال أن يأتي حُكّام متل عمر رضي الله عنه إن مُكن لهم في الأرض، إن الهوة بين الواقع و بين هذا المثال النموذج الذي يجب أن نقترب منه، هذه الهوة لن تعبر أبداً عبوراً كاملاً إلا ما جاء في الحديث عن عودة الخلافة الراشدة قبل نزول المسيح عليه السلام.
إن عدم عبور هذه الهوة لا يُعفي المسلمين من الشعي الدائب للاقتراب من هذا النموذج ومحاولة التحقق به في سياساتهم الشرعية ما أمكنهم ذلك، وهذا السعي شيء إيجابي لأنه يحفّز الهمم ويظل الأمل يراود الناس لحكم فيه عدل و خير ودولة تطبق شرع الله وإن كان فيها أجطاء أو نقص، وهذا أفضل من دولة تحارب الإسلام و المسلمين، يقول الشيخ رشيد رضا:”ولحريةٌ تبيح بعض المنكر ولا تمنع شيء من المعروف أهون من عبودية (استعباد) تنهى عن المعروف وتأمر بالمنكر، فالعبودية تطفئ نور الفطرة البشرية” 4
إن انشداد المسلمين إلى هذه الفترة الوضيئة يجب ألا يمنعهم من الاهتمام بحاضرهم وكيفية التخلص من واقعهم الضعيف و التفكير أيضاً بالمستقبل و التخطيط له وإذا كان الكلام على الدول فإنه يُقاس عليه الكلام على واقع الدعوات الإسلامية اليوم، فمن كان من القادة أو العلماء عنده علم وتقوى نقبل به وإن كانت له هفوات وأخطاء مع المجاهدة دائماً لتحقيق المثال الأفضل، إن بعض الناس يحاسب العلماء أو الدعاة على أشياء وقع متلها من ملوك الدول الإسلامية سابقاً، وهم يبررون لهم أخطائهم أو يلتمسون لهم الأعذار فلماذا لا نسير بالدعوة سيرها الطبيعي مع معرفة ما يحيط بها ولاستفادة من أخطاء الماضي.ٍ
———————————————————————————————————–
1-سير أعلام النبلاء 20/418
2-المنتقى من منهاج الاعتدال 61
3-الفتاوى 28/254
4-مجلة المنار م 6 / 6

الزحف البطئ

الإسلام دين عام للبشرية كلها، وليس لقوم أو فئة خاصة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) والمسلم يفرح عندما يرى انتشار الاسلام، ويفرح عندما يسلم الكافر في أي ملة كان خاصة إذا كان قد أسلم على يديه فإنه يكون قد أنقذه من النار وأخذ هو الأجر. هذا شيء طبيعي لا يختلف عليه أحد. ولكن لنرى بعد ذلك ألا يحتاج هذا الوافد الجديد إلى تعليم وتدريس، ألا يحتاج إلى أن يفقه الإسلام وخاصه أسسه وأصوله، ويترك ما كان عليه من وثنية وأفكار مشوشة عن الحياة والكون والإنسان، بل ماذا لو كان قد دخل في الاسلام لأغراض خاصة، للهدم من الداخل، ألا نحتاج إلى وقفة وتريث واختبار ولا نكون من المغفلين.


بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة قريش (وأنذر عشيرتك الأقربين)، ثم ما حول مكة ثم العرب قاطبة، وأسلمت الجزيرة العربية قيادها للإسلام، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم اختار المهاجرون والأنصار أبا بكر خليفته صلى الله عليه وسلم، وفي عهده رضي الله عنه اتسع العرب المسلمون شرقًا وغربًا يبلغون الناس هذا الدين، وأسلمت البلاد المجاورة طوعًا لا كرهًا (لا إكراه في الدين)، واستمرت الفتوحات في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، ودخلت أمم شتى في هذا الدين، أمم وارثة لحضارات قديمة، وأمم تحمل أوزارًا من بقايا ماضيها من أفكار وعادات وتقاليد “كل الأشياء وقعت في نفس الوقت وبسرعة خاطفة؛ الفتوح، الهجرات، قيام الدولة، الحاجة إلى الاجتهاد، أهل البلاد المفتوحة يدخلون في الاسلام جماعات ضخمة…” [حسين مؤنس/ تاريخ الفكر العربي/167]

هذه الوفرة من الفتوحات تحتاج إلى توقف لينصهر القادمون الجدد في المجتمع الجديد؛ حتى يكتمل التجانس في صورته الكبيرة، كما كان في نواته الأولى (المهاجرون والأنصار والعرب في الجزيرة). وإن عدم التجانس سيكون له التأثير السلبي على العقيدة وعلى السلوك، خاصة وأن “دين الإسلام لما كان ناسخًا للأديان كلها، وكان ملكه قادحًا في الرياسات بأسرها، امتلأت القلوب غيظًا عليه، ثم كان مع ذلك في غاية الحسن، فغير بعيد أن يكثر عدوه وتزدحم التخاليط عليه”” [أبو الحسن العامري: الإعلام بمناقب الإسلام/ 193]

امتلأت القلوب غيظًا من بعض الفئات الحاقدة التي تشعر أن الإسلام قوض لها إمبراطوريات وهدم عروشًا ظالمة، وكانت رغبة عمر رضي الله عنه التروي والاعتدال في التوسع، ولم يكن يحب أن يسرع المسلمون في الفتح قبل أن يثبتوا أقدامهم في البلاد المفتوحة، وينظموا أمورهم، كان هذا واضحًا في ذهن عمر، يروي الطبري: “حسب أهل البصرة سوادهم والأهواز، وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار، لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم”، هذه رغبة داخلية، إحساس داخلي يدل على عبقرية في فقه سنن المجتمعات، وعقابيل الفتوح دون التثبت والتريث وصهر القادمين الجدد في بوتقة الإسلام الصحيح، وقد أصيب هو شخصيًا من عقابيل ذلك؛ فقال لابن عباس عندما علم أن الذي طعنه علج من علوج العجم قال: “هذا من عمل أصحابك، كنت أريد ألا يدخلها (المدينة) علج من السبى فغلبتموني” [ابن سعد/ الطبقات 3/352] وقد يقال لماذا لم يمنع دخول هؤلاء وهو أمير المؤمنين، ذلك لأن رأيه هذا رأي اجتهادي في السياسة الشرعية، وليس عنده دليل على المنع، وهو خليفة راشد، لا يمنع ولا يعطي إلا ضمن الأدلة الشرعية.

إنها الحرية والشورى، لا يستبد برأيه يقول لهم غلبتموني على رأي ارتئيته. يقول رضي الله عنه مخاطبًا ولاة الأمصار يحذرهم من ظلم الناس وإذلالهم: “ولا تضربوهم فتذلوهم، ولا تغلقوا الأبواب دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم، وقاتلوا بهم الكفار طاقتهم، فإن رأيتم بهم كلالة فكفوا عن ذلك، فإن ذلك أبلغ من جهاد عدوكم” [شبلي النعماني: حكومة عمر/37]

ولما تولى عمر بن عبد العزيز أمر الخلافة، وجه إلى مسلمة بن عبد الملك وهو بأرض الروم محاصر للقسطنطينية يأمره بالقفول بمن معه من المسلمين ووجه له خيلاً عتاقًا، وطعامًا كثيرًا، وحث الناس على معونتهم، وذلك عندما رأى عمر ما لقى مسلمة وجنده من الجهد في حصار القسطنطينية، وخشي على الجيش الفناء أي أن حفظ رأس المال (الجيش الإسلامي) أهم من الفتوح.

وكذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله في بلاد ما وراء النهر بإقفال المسلمين بذراريهم إلى البلاد والتي أظلها سلطان العرب منذ سنين قائلاً: حسب المسلمين الذي فتح الله عليهم. وذلك لأن عمر رحمه الله كان حريصًا على إصلاح البلاد وأهلها أولاً، وأن صهر الأفراد والمجتمعات ضد مفهوم (الأمة) مع العناية بالتربية الدينية التي تكون المزاج العام للأمة هو الأولى.

ليس هذا إهمالاً للدعوة أو ابتعادًا عنها، بل إنه واجب أساسي أن ندعو الناس، كل الناس، إلى هذا الحق وهذا الخير، عدا عن الأجر العميم لمن يسلم الناس على يديه، ولكن هل نفرح بكل داخل، ولو كان دخوله لهوى أو مؤامرة وضغينة، أليست هذه العقلية أو هذه البساطة مما أوهن الصف الإسلامي في القديم (عبد الله بن سبأ نموذجًا) وأمثاله في العصر الحديث، بعدم الحذر من هذه الأصناف.

ألا يجب أن تتجه الجهود لتعليم المسلمين أولاً وتحصينهم وتثقيفهم، حتى يكونوا هم أنفسهم دعاة بأقوالهم وسلوكهم، ويصبحوا نماذج يقتدى بها؟.

ألا يجب أن نلوم أنفسنا على هذه الخلخلة التي يحدثها القادمون الجدد، الذين يحملون إرث حضارتهم ولم ينصهروا في مجتمع الرشد والحضارة؟ لماذا “لا ننظر إلى ما في حقائب المسلمين الجدد” كما يقول (دوغو بينو) [حاضر العالم الإسلامي 1/186]

نعم هناك حقائب ملغمة، لابد من تفتيشها، ولابد من اختبار وانتظار لتتكون الأمة التي تقوم على العقيدة السليمة.

إن التروي أفضل من العجلة المهلكة، ولذلك قال عمر رضي الله عنه “ولم يمنعني أن أؤمر سليطًاً [هو سليط بن عمرو بن مالك العامري من الصحابة] إلا سرعته في الحرب والحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث” [تاريخ الطبري 4/266]