الغرس القديم :الدرس والقدوة

هكذا أنتجت التربية المخلصة والقدوة الحسنة والعقيدة السليمة هذا الغرس الذي بذل كل جهده لخدمة الأمة وكافة مؤسسات المجتمع التربوية والعلمية . أناس يعملون بصمت ، غير مشهورين ، ربما ليس لهم مؤلفات أو مقالات هنا وهناك ، ربما ليسوا خطباء يهزون المنابر ، ولكن آثارهم جلية معروفة ، فأستاذ الحديث الذي توفي في مكة والداعية الذي توفي في أندونيسياوغيرهم وأمثالهم كثير ، من يعرف هؤلاء العلماء والدعاة من جيل الشباب المعاصر ؟ لا أحد ، إنهم يعرفون المشهورين من نجوم الفضائيات أو بعض الأسماء اللامعة . هؤلاء الشباب خاضعون للتنويم الإجتماعي فلا يرى أحدهم الأمور إلا من خلال نطاق ضيق ، لم يتحدث إليهم أحد وبقول : هناك غرس قديم يجب أن تتعرفوا عليه ، يجب أن تعرفوا فضلهم ، إنهمجيل يجب ألا ينسى.


ما سر هذا الغرس الذي أنتج هؤلاء الأفاضل من الدعاة والمربين ؟ كيف تربى هذا الجيل القديم ؟ لاشك إنها الفطرة السليمة والعلم النافع قبل أن تظهر آفات ( العصرنة) و( الحداثوية ) والإنبهار بكل ما هو شاذ من الأفكار. وقبل أن يظهر الإنبهاربالمناهج اللسانية البنيوية التي تدعو إلى نقد النص ( القرآن ) أسوة بأي كتاب بشري ، هكذا يتعاملون مع القرآن الكريم !! . وقبل أن يظهر لسان ( أرسطوطاليس ) كما عبر الإمام الشافعي رحمه الله وهو لايقصد اللغة اليونانية بل الفكر اليوناني كما افتتن به المعتزلة قديما وبعض من يسمونهم الفلاسفة . وقبل أن تؤخذ الأنفس بالأسماء التي يضخمها الإعلام المكتوب والمرئي وقدمها للشباب الذي شدا شيئا من علم الجامعات ، فإذا به يتنفج ويظن أن من الحداثة أن ينقض كل قديم ولوكان حقا ، ويهدم كل ما سمعه من ثناء على علماء أو دعاة ومفكرين ، فهذا الشاب الجامعي الذي لم يتمكن من العلم هو يقرأ الآن لهذا الذي يكتب بالفرنسية أو الذي يترجم عن الفرنسية . إن مجرد هذه القراءة ترفعه الى درجة مثقف كما يتوهم .
هذا لا يعني أننا مع كل قديم أو أننا مسكونون في الماضي ، ولسنا مع كل جديد إذا كان غثا هجينا ، بل نرى التجديد في الخطاب الإسلامي ، في الوسائل والمواقف والمراحل ، والمراجعة الصادقة المحايدة حتى لا نجمد على المألوفات ونكرس الأخطاء . والقصد هو أن لا نبخس الناس أشياءهم وأن نقيم ميزان العدل والإنصاف ،لعلنا نوفق في خطواتنا وما نهدف إليه .

الإعلان

مؤسسة صرف الأنظار

لا يدخلنا اليأس عندما نرى أنصاف المتعلمين أو أنصاف المثقفين الذين يتقنون الانتهازية و يصلون إلى مواقع لا يستحقونها، بينما نجد أن أهل الكفاءة والثقة يبعدون وتصرف الأنظار عنهم.
لا يدخلنا اليأس رغم فداحة الخسارة في الدوائر الثقافية والإعلامية، ورغم مصيبة الأمة بما يجري أمام ناظريها، هناك خبراء متخصصون في إبراز نجوم من الكتاب والصحفيين وتلميعهم وتقديمهم للجمهور على أنهم هم الذين يملكون الحقيقة والفكر الثاقب ولا أحد غيرهم، وأما أهل الفضل والعلم والأكاديميين المتخصصين فقد شغلوهم بالسعي المعاشي ليكونوا مستوري الحال.
هناك متخصصون في نشر الفساد الخلقي، ولكن بأسماء مغايرة (لياً بألسنتهم وطعناً في الدين) وتحت عناوين تصرف الناس عن الخفايا، والمشاهد اليقظ يعلم كيف تسمم بعض القنوات الفضائية الأجواء الاجتماعية و الثقافية.
هناك متخصصون في صرف الأنظار عن هموم الأمة الكبرى و إشغال الناس بمعارك حول أشياء ثانوية أو تافهة، فقد تحولت لعبة كرة القدم إلى وثنية جديدة وكل أسبوع تطالعنا بعض القنوات الفضائية بمشكلة ختان البنات، وكأنها هي مشكلة المسلمين الأولى. وهل عدم وجود (سيدات الأعمال) يؤدي إلى تقهقر الأمة؟ وهل تحويل المرأة عن وظيفتها الاجتماعية ورسالتها الأمومية هو الذي سيجعلنا في مصاف أرقى الأمم؟
هناك متخصصون – وهو الأخطر – في شراء النخبة بطرق غير مباشرة، مثل فتح صفحة لأحدهم في جريدة مشهورة أو مساعدة أحدهم في تأسيس منبر إعلامي كبير، أو ترتيب زيارات لدول و رؤساء، وطبعاً مع النزول في أفخم الفنادق وأرقى المطاعم. إنه شراء لأناس ربما كتموا حب الدنيا في قلوبهم لفترات طويلة، فلما جاءت وأراد الله أن يكشف عن خبيئة الصدور، استجابوا للمغريات و هرولوا إليها، أما الأحرار من العلماء والمثقفين والدعاة فهم الذين يتصدون لخدمة الأمة، وهؤلاء باتوغرباء أمام جحافل الانتهازيين اللاهثين وراء المال و الذين يبدلون الحقائق والمبادئ.
إن طبقة الأحرار هؤلاء هم الذين يعيدون الثقة للأمة برجالها، ويعيدون الثقة لجيل الشباب من خلال التعامل وصحة الأفكار ووضوح الطريق، وليس من خلال فرض (الآبائية) ولا من خلال فرض الأفكار المستوردة والاغتراب الثقافي.

التدين الفاسد

من الأمراض القلبية التي تصيب الأمم والتي يذكرها القرآن الكريم ويعيد ذكرها، ذلك عندما يتحول التدين إلى مظاهر خارجية بينما تكون القلوب فاسدة والأعمال فاسدة، فلا مانع عند هؤلاء المرضى من أكل أموال الناس واجتراح الظلم ولكنهم يتقيدون ببعض الهيئات الظاهرة. وقد ذكر القرآن الكريم بني إسرائيل كمثال واضح على  هذا المرض الاجتماعي القلبي، فتحدث عن قلوبهم القاسية وقتلهم الأنبياء والمصلحين وهم مع ذلك يعتبرون أنفسهم أفضل الأمم، ونحن نشاهد اليوم تقيدهم بلباس معين على الرأس، وترك العمل يوم السبت والتشدد في الذبائح التي يجب أن تذبح على طريقتهم، وهم في الوقت نفسه يفسدون في الأرض بتسعير الحروب وأكل الربا واستخدام المرأة للإفساد.

وقد أصاب هذا المرض قريشاً قبل الإسلام، فهم لا يخرجون إلى منطقة عرفات في الحج لأنها ليست في الحرم، وهذا يعني أنهم يعظمون الحرم. وإذا جاء من يريد الحج من خارج مكة فلا بد أن يطوف بلباس لم يعصي الله فيه، و إلا يجب أن يطوف عرياناً أو يطلب من أهل مكة لباساً على سبيل الإعارة، وهذا من الأسباب التي منعت الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحج في العام التاسع وأرسل علياً رضي الله عنه  لينادي في الناس ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عرياناً.
وإعادة الحديث عما أصاب بني إسرائيل حتى لا يقع المسلمون بما وقع فيه من سبقهم، فيأخذون بالفروع ويتركون الأصول ويهتمون بالمندوبات والتحسينيات أكثر.من اهتمام بالضروريات ويقع أحدهم بالحسد والكبر وأكل أموال الناس بالباطل ولكن زيه وهيئته الخارجية على السنة، فهذه الهيئة وإن كانت مطلوبة شرعاً ولكنها ليست مقدمة على أعمال القلوب الصالحة، والأصل هو الأعمال الداخلية في الإخلاص والمحبة والرضا والتوكل والخشية والإنابة… فإن الشكل الخارجي عندما لايقوم على بواعث داخلية فإن مقاصد الدين تضيع، وقد ورد عن عيسى عليه السلام أنه صاح في الكهنة اليهود:”ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المرآوون، لأنكم تنقون خارج الكأس والصحفة وهما في داخل مملوآن اختطافاً ودعارة، أيها الفريسي الأعمى: نق أولاً داخل الكأس والصحفة لكي يكون خارجها نقياً أيضاً”[1]
وقد ذكر شيخ الأسلام أبن تيمية أنه “لا يجوز أن نجعل المستحبات بمنزلة الواجبات، بل قد يكون ترك المستحبات لمعارض راجح أفضل من فعلها، ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظم في الدين من بعض المستحبات كالقنوت في الفجر والنزاع في استجابة أو كراهية، أو النزاع في أنواع التشهدات وكلها جائز…”
إن التشدد في المستحبات أو الهيئات الظاهرة وترك الأصول من أعمال القلوب الصالحة، هذا التشدد إنما هو في أغوار النفسالمريqة تعويض عن الضعف في تطبيق جوهر الدين وغاياته ومقاصده الكبرى، وهو في الحقيقة هروب إلى الذي لا يكلف الإنسان كثيراً والقرآن الكريم ينتقد الطريقة الانتقائية في تطبيق النصوص أو إخضاع القيم الأخلاقية لاعتبارات دينية مزيفة كاستحلال اليهود أكل مال غير اليهود (ليس علينا في الأميين سبيل) أو التحايل على النصوص كما في قصة السبت التي ذكرها القرآن.
أليس الأجدى الاهتمام بأمراض القلوب في الاهتمام بأمراض الأجساد. وكل يعرف نفسه.