بين التاريخ السياسي والحضاري للأمة

                                                                  د . محمد العبدة

الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد :

فإن المتابع لما يجري على الساحة الثقافية في هذه الأيام سوف يلاحظ أن هناك حملة مدروسة على التاريخ الإسلامي ، حملة لا تخطئها العين ، فيها ازدراء للماضي وتهجم على الدول الإسلامية التي جاءت بعد الراشدين ، وقد يلمزون الخلافة الراشدة أحيانًا ، وبطريقة توحي للقارئ أو المستمع أن هذا التاريخ كله استبداد وظلم وقتال وفرقة ، ويبثون هذا التشويش وهذه الصورة المظلمة تحت ستار : الموضوعية والحداثة والمعاصرة أو تحت ستار التحقيق وعدم تقديس الأشخاص ، وإذا كان بعض من يتكلم بهذا الشأن له أغراض سيئة ، فإن البعض يقوم بهذه الحملة من باب ( التظرف ) ليشعر الآخرين أنه من الطبقة المثقفة التي لا تقدس الماضي ، وأن كل شيء خاضع للنقد حتى الأمور المسلمة والمتفق عليها . ولو أن هؤلاء النقدة يبنون أمورهم على أساس من المعرفة الدؤوب والنقد السليم لكان الأمر سهلًا ويقبل الحوار والمناقشة ، ولكنه التطرف في النقد الذي يجري نحو الشهرة والظهور ، إنهم لا ينتقدون الظالمين الفاسدين ، بل هو نسف واغتيال للتاريخ كله ، والعجيب أن يتنبه مؤرخ غربي لهذه النظرة الخاطئة عند بعض الناس ، يقول : ” هناك نظريات خاطئة صورت التاريخ الإسلامي على

                                                                                            ( 1 )

 أنه سلسلة محكمة من الحكام الطغاة ”  والعجيب أيضًا أن أمم الغرب من أحرص الناس على إعادة تاريخهم وذكر أبطالهم والكبار من الأدباء والعلماء .

راجعت أوروبا تاريخها لتستفيد منه ، درست تاريخ الرومان واليونان ، لم تقطع هذه الأمم صلتها بالماضي بل جعلت الماضي مهمازًا لنهضتها ، ثم جددت وابتكرت وقامت بين جوانبها حركات إصلاحية .

وهناك أمم لا تجد لها تاريًخا فتتصيد لنفسها أسطورةً تحيا بها “ونحن نملك

                                                                                                                                                                                                 ( 2 )

تاريخًا حقيقيًا لو تقسمه أهل الأرض لكفاهم دافعًا نحو أهداف شريفة وقيم مثلى ” 

لا يخفى على عاقل أهمية التاريخ وأنه أكبر مُربّ للأمم كما يصفه البعض ، وأنه ” وإن كان في ظاهره أخبار عن الأيام والدول وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ زاهية قدورة : بحوث عربية وإسلامية / 43 والكلام للمؤرخ ( روزنثال ) .

2ـ زكي نجيب محمود : عربي بين ثقافتين / 22 .

 للكائنات ومباديها دقيق ” كما يصفه ابن خلدون ، ولا شك أن التاريخ هو إعادة مستمرة وإعادة تفسير ، وهذا يلقي الضوء على الطريق الذي نسير فيه ، وإن دراسة التاريخ تعين على مواجهة المواقف الجديدة .

التاريخ السياسي والتاريخ الحضاري :

ليس من الإنصاف وليس من العدل أن نقتصر في قراءة التاريخ على الجانب السياسي ، بل يجب أن يُقرأ من جميع جوانبه السياسي والحضاري ، لأن الاقتصار على قراءة السياسي يفقد هذا التاريخ جوهره ويعطل دوره ، وإذا كان التاريخ السياسي قد أصابه الضعف أو التدهور في بعض الفترات وبعض المناطق إلا أن هذا التاريخ فيه قمم وفيه عدل ورحمة وفيه ملوك صالحون ، وفيه أيضًا استبداد وأهواء ، أما التاريخ الحضاري فكله قمم ، كانت العلوم بشتى فروعها في تقدم ولم ترتبط بظاهرة الضعف السياسي ، وذلك لأن الأمة الإسلامية نشأت بالدين ، والدين يحث على طلب العلم ، وإن أكثر المدارس كانت بدعم من الأوقاف الخيرية وجهود الأفراد والجماعات وليست بجهود الدول ،وإذا كان التاريخ السياسي يسرد تعاقب الدول وأخبار المعارك فإن التاريخ الحضاري  يذكرالذين بنوا صرح الفقه الإسلامي والذين كشفوا أسرار الداء والدواء ، والذين نظموا العمل الاجتماعي من خلال مؤسسة الوقف .

وقد شبه أحد المؤرخين التاريخ بنهر ذو ضفتين ، فالنهر قد يكون فيه أحيانًا دماء وأشلاء ولكننا نجد على الضفتين العلماء الذين أفنوا أعمارهم في خدمة العلم وخدمة الناس ، هنا نجد الأطباء والأدباء ، وهنا نجد الجغرافيين والمؤرخين الذين يصلون الأمة بعضها ببعض في الزمان والمكان ، أفقيًا وعموديًا ، الجغرافي الذي يتنقل في البلدان طولًا وعرضًا ولعدة سنوات ليقدم لأمته تقريرًا عن أحوال المسلمين في مدنهم وقراهم ، لقد ربط المؤرخون ماضي الأمة بحاضرها عندما جاءوا بفكرة الطبقات وتراجم الرجال والنساء وهكذا سيجد المتأخرون المثل الأعلى للخلق الفاضل في حياة الأجيال الأولى من أمثال ابن سعد في طبقاته ، وهنا الشعوب التي صمدت وصابرت واستطاعت الفكاك من أسر الأعداء .

لا أريد الإطالة في الحديث عن هذا الجانب فالكل يعلم أسماء شخصيات كبيرة وعظيمة في علوم الدين وعلوم اللغة وفي الطب والهندسة والرياضيات وعلم النبات والفلك ، ومن يقرأ كتب التراجم سيجد العدد الكثير من العالمات في الفقه والحديث النبوي .

وفي هذا الجانب الحضاري كانت مؤسسة الوقف من أعظم المؤسسات نفعًا للأمة ومن آثارها المدارس والمشافي والمكتبات والمساجد وأمور أخرى كثيرة تتعلق بمساعدة الإنسان وفي هذه الحضارة بُنيت أكثر من ثلاثمائة مدينة أكثرها باق إلى اليوم ، والذي بدأ بهذا العمران هو الخليفة عمر رضي الله عنه .

التاريخ السياسي :

من الواضح أن الخلافة الراشدة قد انقطعت بتنازل الحسن بن علي رضي الله عنه وتحولت الدولة إلى ملكية وراثية ، ومعاوية رضي الله عنه يعرف ذلك ويقول : أنا أول الملوك .

وقد اعتبر ابن خلدون أن فترة بعض ملوك بني أمية وبني العباس هي من الملك الممتزج بالخلافة ، ويقول : ” وهم وإن كانوا ملوكًا لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي ” .

وجاء في الحديث عن جابر بن سمرة قال : انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أبي ، فسمعته يقول : ” لا يزال هذا الدين عزيزًا منيعًا إلى اثني عشر خليفة ” ثم تكلم بكلام خفي عليَّ فقلت لأبي ماذا قال ؟

                                                            ( 3 )

 قال : ” كلهم من قريش ” .

نعم لم يكن هناك شورى التي أرسى بدايتها الخليفة عمر رضي الله عنه ولم يكن

                                                                                                                         ( 4 )

 هناك مجلس مؤلف من عدد معين وشروط معينة .

أما استشارة أهل العلم والرأي فهذه لم تنقطع ، وقد كان في الأندلس مجلسًا لشورى العلماء وعددهم عشرة والفتوى لهم .

هذا الذي وقع ولكن هل هذه الدول استبدادية مثل دول اليوم الاستبدادية الظالمة المدمرة للمجتمع ؟ إن كلام المشنعين على التاريخ الإسلامي يعطي انطباعًا للناس أن حكام الأمس من بني أمية وبني العباس مثل حكام اليوم .

وهذه مغالطة كبيرة ، بل هي جهل بتفاصيل تاريخ المسلمين ، يقول الشيخ رشيد رضا : ” حكامنا لا يُذكرون مع ملوك بني أمية وأمرائهم ، حتى مع الحجاج الظالم ، فأولئك فتحوا الممالك وهؤلاء أضاعوها ، وأولئك حفظوا الشريعة

ـ مع تقصيرهم في الشورى ـ وهؤلاء أضاعوها وأولئك لا يظلمون إلا من

                                                                                              ( 5 )

 نازعهم هؤلاء يظلمون في كل شيء ” .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

3ـ صحيح مسلم : كتاب الإمارة / 1821

4ـ لا نبرر عدم وجود الشورى ، ولكن من قواعد التاريخ ألا نحاكم القدامى بمفاهيم عصرنا .

5ـ مجلة المنار م 9 / 426

هل هي دول استبدادية كما هي دول اليوم وفتوحات بني أمية هي الراسخة والباقية إلى اليوم بعد فتوحات الراشدين ، وقد تقبلت الشعوب هذه الفتوحات لأنها كانت للبناء الحضاري وليست للنهب والسلب والتدمير كما هي دول الغزو الامبراطوري . إن الدول الاستبدادية لا تختار أمراءها وموظفيها إلا من كان على شاكلتها ، بينما نجد أن أمراء بني أمية الفاتحين سواء في الغرب أو الشرق كانوا من أهل التقوى والعلم والكفاءة مثل : عقبة بن نافع وحسان  بن النعمان الغساني وزهير بن قيس الذي وصف بأنه من رؤساء العابدين وأشراف المجاهدين وكان عبد الملك بن مروان معجبًا به ، وجاء بعده موسى بن نصير الذي فتح الأندلس وفي المشرق مثل : قتيبة بن مسلم الباهلي والجراح بن عبد الله الحكمي ومحمد بن القاسم الثقفي ، هل الدول الاستبدادية كما هي دول اليوم تختار أمثال هؤلاء القادة الكبار الذين يعارضون الجالس في دمشق أحيانًا .

لم تكن هذه الدول مطلقة السلطة ، ذلك لأنها مقيدة بوجود الشريعة وحراس الشريعة من العلماء الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر ، ونتذكر هنا مواقف هؤلاء مثل موقف المنذر بن سعيد البلوطي مع عبد الرحمن الناصر في الأندلس، والإمام الزهري مع هشام ابن عبد الملك وسفيان الثوري مع محمد المهدي العباسي وجمهرة العلماء وقفت حياتها لخدمة الإسلام وكانت تكافح ضد الفساد والطغيان

 بعد أن أدخل السلطان العثماني عبد المجيد قوانين وضعية آتى بها من القانون الفرنسي ، كان هذا إضعافًا للعلماء ترتب عليه إلغاء القيود والضوابط التي كانت مفروضة على السلطان من قبل الشريعة الإسلامية ، أي أن هذا أدى إلى انفراد

                                                                                                                  ( 6 )

 السلطان بالحكم وصار أكثر انطلاقًا في سلطته .

وإن احتفاظ الفقه الإسلامي باستقلاله الكامل في مواجهة السلاطين والحكام كان أكبر مفخرة من مفاخر نظامنا السياسي والذين يتكلمون عن الاستبداد في الدولتين الأموية والعباسية لا يلاحظون ـ مهما قيل عن بعدهم عن مبدأ الشورى ـ إلا أنهم لم يقحموا نفوذهم في آراء الفقهاء ، وهؤلاء الفقهاء كانوا يفضلون أن يضربوا دون أن يخضعوا لرغبات الحكام ، ولم يكن الفقه وحده والفقهاء يتمتعون بهذه الاستقلالية بل كانت كذلك مؤسسات التعليم والقضاء ، والمساجد مفتوحة للعلم وللجميع . هذا الواقع السياسي وإن حقق أهدافًا مهمة من أهداف الخلافة ، وإن أصبح واقعًا لم يستطع حتى الملوك الصالحين تغييره والانفلات منه إلا أن علماء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

6ـ انظر : طارق البشري : نحو تيار سياسي للأمة / 54

 المسلمين كانوا على معرفة بأن الأصل هو الخلافة والشورى ، قال أبن حزم

                                                                                                                                                                                                    ( 7 )

 رحمه الله ” ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها ” وقال ابن تيمية رحمه الله : ” ما قال أهل السنة إن الواحد من هؤلاء كان هو الذي تجب توليته وطاعته في كل ما أمر به ، بل كذا وقع ، فيقولون : تولى هؤلاء

وكان لهم سلطان وقدرة فانتظم لهم الأمر ، وأقاموا مقاصد الإمامة من الجهاد

                                                                                                                                                                                      ( 8 )

 وإقامة الحج والجُمَع والأعياد وأمن السبل ولكن لا طاعة في معصية الله ” وفي المقارنة بين الخلافة والملك يسأل ابن تيمية : ” هل الملك جائز في الأصل والخلافة مستحبة ؟ أم ليس بجائز إلا لحاجة من نقص علم أو نقص قدرة ؟ فنحتج بأنه ليس بجائز في الأصل ، بل الواجب خلافة النبوة لقوله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي .. ) فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء ، وهذا دليل بيّن في الوجوب ، وهنا قولان متوسطان : أن يقال الخلافة واجبة وإنما يجوز الخروج عنها بقدر الحاجة ، أو أن يُقال يجوز قبول الملك بما ييسر فعل المقصود بالولاية ولا يعسره ، وبعضهم يوجب الخلافة ويذم من خرج عن ذلك مطلقًا كما هو حال الخوارج والمعتزلة وطوائف من المتسننة والمتزهدة ، وبعضهم يبيح الملك مطلقًا من غير تقييد بسنة الخلفاء كما هو فعل

                                             ( 9 )

 الظلمة والمُرجِئة ”  .

ولابن خلدون رأي يؤيد فيه القول الثاني من القولين المتوسطين : ” الملك لمّا ذمه الشارع لم يذم منه الغلب بالحق ومراعاة المصالح ولكن ذمه إذا كان فيه تَغلُبٌ بالباطل ” . وأما ولاية المتغلب التي يدندنون حولها كثيرة ، فإن العلماء قالوا :   ” إنها للضرورة وتقدر بقدرها بحسب المصلحة ويجب إزالتها عند الإمكان ،

                                                                                                                                                                 ( 10 )

 واشترطوا في طاعته إقامة الجهاد والجمعات وإنصاف المظلوم ”  .

لا نبرر أي ظلم أو طغيان أو تبذير الأموال ووضعها في غير حقها ولا ولاية المتغلب ، ولكن الأمة الإسلامية تعرضت لأخطار خارجية وداخلية لو تعرضت لها أمة أخرى لانماعت ولم يعد لها ذكر في التاريخ ، كيف نتوقع أن تدخل أمة مثل الفرس ولها ملك طويل عريض ولا يكون فيها حقد على الإسلام وأهله ممن لم يدخل الإيمان في قلبه ، وكيف نتوقع من الأمراء والكهنة الذين عاشوا قرونًا يستعبدون الناس ويُنظر إلى ملوكهم وكأنهم آلهة ، كيف يتفهمون بساطة الإسلام   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

7ـ الفصل في الملل والنحل 5 / 7

8ـ المنتقى من منهاج الاعتدال / 61 .

9 ـ الفتاوى الكبرى 35 / 24

10ـ رشيد رضا : تفسير المنار 12/ 180 وانظر العواصم والقواصم لمحمد بن ابراهيم الوزير .

وعدم تقديس الأشخاص وأن أس هذا الدين هو توحيد الله في الربوبية والعبودية ولذلك ألّهوا عليًا رضي الله عنه وذريته ، وهذا ضرب وتخريب للإسلام من الداخل .  

التاريخ السياسي والأمة

رغم التجزؤ السياسي وظهور الدول الصغيرة المنقطعة بعد القرن الثالث الهجري إلا أن الأمة بقيت موحدة ثقافيًا وسياسيًا فالعالِم يأتي من الشرق ليستقر في الغرب ويبث علومه بلا أي عوائق ، والمسلم ينتقل من بلد إلى بلد ويستقر فيها ولا يشعر بأنه غريب ، فلا حدود ( ولا جوازات وتأشيرات ) وليس هناك حواجز بسبب العرق أو اللون أو الأصل الطبقي ، ففي ظل هذه الحضارة وصل المماليك إلى أعلى درجات السلطة ، وقد حافظ الفرد المسلم ورغم التجزؤ السياسي على القيم الإسلامية وهذا مما ساعد في العصر الحديث على مقاومة الاستعمار والاحتلال الأجنبي .

مقارنة مع تاريخ الغرب :  

الذين ينظرون إلى تاريخنا السياسي ويشنعون عليه هؤلاء ينظرون إلى تاريخ الغرب مجملًا دون تفاصيل ، وينظرون إليه في زمنه القريب ، ويعجبون به كالذي ينظر إلى الجبل من بعيد فلا يرى إلا القمم ، يرى شخصيات سياسية وأدبية وعلمية ، ونحن ننظر إلى تاريخنا بتفاصيله فنرى فيه القمم والأخاديد والوديان ونمشي ونمشي في طرق متعرجة .

لا يعلم هؤلاء أن ألمانيا قبل مئة عام كانت مجزأة إلى (39) دولة ، ولا يعلمون عن حروب الثلاثين وحروب السبعين بين دول أوروبا ، ولا يعلمون عن الحرب الأهلية في أمريكا التي كلفتهم أكثر من مليون قتيل ، ولا يعلمون أن فيلسوف السياسة في القرن السابع عشر ( جون لوك ) كان يقول : ” للحاكم المدني سلطة مطلقة على كل أفعال الناس ، وعليهم أن يطيعوا القوانين التي يسنها الحاكم حتى لو كانت خاطئة ” وأن السياسي ( هوبز ) كان يقول : ” أفوض وأتخلى عن حقي لهذا الجمع من الأشخاص ( الدولة ) وأبيح لها جميع أفعالها ” وأن ملك بريطانيا ( جيمس الأول ) كان يقول : ” إن الله هو الذي اختار الملوك ، فهم المسؤولون أمامه فقط ، ولا حكم للقانون عليهم ، لأنهم فوقه وليس للرعية إلا أن تطيع ولو كان الملك شريرًا ” ولويس الرابع عشر ملك فرنسا كان يقول : الدولة أنا ، ولويس الخامس عشر كان يقول : في شخصي وحدي تستقر السلطة العليا ، فهل قال أحد من ملوك المسلمين أنه فوق الشريعة وأن الله سبحانه هو الذي اختاره ؟

كانت أول حركة إصلاح في بريطانيا عام ( 1832 ) م حيث نُقلت السلطة التي     كانت للأغنياء وملاكي الأراضي إلى الطبقة الوسطى ، ثم توسع حق الانتخاب ما بين ( 1867ـ 1918 ) وأصبح لكل البالغين رجالًا ونساء لهم الحق في

                   ( 11 )

الانتخابات  لقد تطورت الديمقراطية البريطانية على مدارقرنين ونصف من الديمقراطية النظرية إلى ديمقراطية كما هي واقعهم اليوم ولا شك أن هذا الذي وصلوا إليه هو تجربة ناجحة نسبيًا أي هذا أحسن ما وصلوا إليه في نظام الحكم بما أن ليس عندهم في النصرانية شيء يتعلق بنظم الحكم .

وكما قال رئيس وزراء بريطانيا ( تشرشل ) هذا أحسن الأسوأ . وهي تجربة بشرية بدأت بعد أقل من قرن تظهر عيوبها ونقائصها ، وبالتأكيد هناك ما هو أفضل منها وأحكم وأسلم لو فكر المسلمون بطريقة صحيحة .

ملوك صالحون :

هناك أسماء مشهورة في تاريخنا من أهل العلم أو الحكم ويتكرر ذكرها والكتابة عنها ، ولكن هناك أيضًا أسماء غير مشهورة ظهرت في أزمان مختلفة وأماكن مختلفة تمثل مبادئ الإسلام وشريعة الإسلام وحفظ كيان الأمة .                وهذا يدل على أن الأمة الإسلامية أمة غير منقطعة إذا ضعفت في جانب قويت في جانب آخر ، وفي أحلك الظروف يظهر هنا وهناك ملوك صالحون وعلماء ربانيون ، فالخط البياني للحضارة الإسلامية كثير القمم وقد يهوي في لحظات ضعف وعجز ، ولكنه يعاود الصعود من جديد .

ومن هؤلاء الملوك في الغرب الإسلامي : 

1ـ أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن أمير دولة الموحدين ، تولى الملك عام ( 580 ) هـ كانت مجالسه مزينة بحضور العلماء تفتتح بالتلاوة ثم بالحديث ، وكان يجيد حفظ القرآن ويحفظ الحديث ويتكلم في الفقه ويناظر ، بنى مستشفى غرس فيه جميع الأشجار ورتب له كل يوم (30) دينارًا للأدوية ، وكان يجمع الزكاة ويفرقها بنفسه ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وصنف كتابًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

11ـ في عام 1877 افتتح في العاصمة استانبول مجلس المبعوثان ( البرلمان ) العثماني وهو يضم كل الأعراق في الدولة وكل الطوائف . 

في العبادات وله فتاوى ، وفي عام ( 590) كتب له ملك قشتالة الأسباني (الأذفونش) يهدده ويطلب منه بعض البلاد فلما قرأ الكتاب غضب وكتب له ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ، وحشد جيشًا كبيرًا وتمت الملحمة

                                                                                                        ( 12 )

 الكبرى ونزل النصر وهي موقعة ( الأرك ) . 

2ـ محمد بن عبد الله بن محمد التجيبي الأندلسي صاحب ( بطليوس ) والثغر الشمالي الأندلسي ، كان رأسًا في العلم والأدب والشجاعة والرأي ، وكان مناغرًا للروم  ( الأسبان ) شجًى في حلوقهم ، له تأليف كبير في الآداب يكون عشر مجلدات ، كتب إلى المعتمد بن عباد ملك إشبيلية : أيها الملك إن الروم إذا لم تُغز غزت ، ولو تعاقدنا تعاقد الأولياء المخلصين فللنا حَدَّهم وأذللنا جَدَّهم .

وله تفسير للقرآن ، ومع استغراقه في الجهاد لا يترك العلم وإقامة العدل ، وكان

                                                                                                                                               ( 13)

 يبيت على أهبة الاستعداد في منظرة له ، ولا ينام إلا قليلًا .

وهذا مثال من الشرق الإسلامي ، من القارة الهندية :

3ـ السلطان خُرّم بن سليم الملقب بـ ( اورنك زيب ) من السلالة التيمورية (التركية المغولية) جده (جهان كير) هو الذي بنى (تاج محل) المشهور .

ولد خرّم بن سليم عام (1028)هـ (1619)م وكان عالمًا زاهدًا ، حارب البدع والخرافات ، وأبطل الاحتفالات الوثنية ، وألغى القوانين المناقضة للإسلام ، وقضى على الدويلات الرافضية في الهند ، ورفع المظالم عن الناس ، وألغى التقويم الإيراني ، ومن أعظم أعماله تكوين لجنة من العلماء لترتيب المسائل الفقهية بعبارة سهلة واضحة حتى يسهل الأمر على القضاة ويكفل تنفيذ القوانين

وقد تم هذا العمل الضخم في ستة مجلدات ويعرف بـ ( الفتاوى الهندية ) وهو على المذهب الحنفي ، ومن مشايخ هذا الملك الشيخ عبد اللطيف سلطان ، ومعصوم بن الشيخ أحمد السرهندي ، ومحمد هاشم الكيلاني ، وكان ملتزمًا بالسنة محافظًا على الصلوات .

ترجم له محمد خليل المرادي في كتابه ( سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر ) وقال عنه : ” سلطان الهند ، أمير المؤمنين ، والمجاهد في سبيل الله ، والملك القائم بنصرة الدين ، فتح الفتوحات العظيمة ” .  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

12ـ الذهبي : سير أعلام النبلاء 21 / 311 .

13ـ المصدر السابق 18/ 592 وانظر : الأعلام 6/228 .   

بلغت الدولة في عهده من القوة والاتساع والازدهار ما لم تكن قبله ولا بعده ، حكم خمسين عامًا ، كانت حدود دولته من آسام وأركان في بورما وأفغانستان إلى شواطئ المحيط الهندي في الجنوب ، توفي في 28 ذي القعدة /1118 هـ (1707) م رحمه الله .

إن قراءة التاريخ والرجوع إلى الماضي هو للفهم والمقارنة وإنصاف أهل الفضل والعلم والجهاد ، وليس للوقوف عند التمجيد فقط كما يتهم الناقدون ، والتاريخ من الأهمية بحيث أنه ( يجب أن يخلد في الصدور قبل السطور ، وأن يكتب على الحِدق قبل الورق ) كما يقول الأمير شكيب أرسلان .

إن حركة التاريخ ليست تقدمًا دائمًا كما ظن أو كما هوي بعض فلاسفة الغرب

ولكنها حركة صعود وهبوط واجتماع وتشتت ، وهداية وضلال قال تعالى :      ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) .   

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s