الحديث عن الأقليات والإقليميات لماذا ظهر الآن؟

د.محمد العبدة

لا أدري ما الذي أصاب هذه الأمة، وما الذي دهاها وجعلها تستجيب لوساوس الشيطان، وتغرق في التفتت والتجزؤ، وتتجذر فيها الإقليمية الضيقة باسم الخصوصية الوطنية التي لم تعد هدفاً لمن يستفيد منها لأهوائه ومطامعه، بل أصبحت معتقداً للإنسان العادي، وطال هذا الداء من يسمونهم بـ(المثقفين)، بل وصل إلى بعض حاملي لواء الدعوة الإسلامية.

الدولة القُطْرية التي تشع هذه الإقليمية، وهي تخاف في الوقت نفسه في الأقليات في داخلها، ومع ذلك فإن هذه الدولة تعلن انتسابها إلى الأمة العربية أو الإسلامية؟!!

بالأمس القريب كان الجزائري يهاجر إلى دمشق فلا يجد نفسه غريباً، ولا يشعر أنه بين أناس لا يعرفهم، ويستقر هو وأسرته، ويكون من أولاده أو ذريته من هم وزراء وعلماء ولا أحد من أهل دمشق يقول: كيف يصل إلى هذا المنصب وهو ليس منا، جاءت أسرة (الكتاني) من المغرب العربي، وهي أسرة علمية معروفة، جاءت إلى دمشق واستقرت بها،

وفي الخمسينات من القرن العشرين كان رئيس جمعية العلماء في سورية الشيخ مكي الكتاني، وقد هاجر الشيخ محمد الخضر حسين من تونس إلى دمشق واستقر بها قبل الحرب العالمية الأولى ،
وبعد احتلال فرنسا لسورية هاجر إلى مصر، ورأس تحرير مجلة لواء الإسلام، ثم أصبح شيخاً للأزهر، ولم يخطر ببال أحد من المصريين كيف يكون تونسي شيخاً للأزهر، والشيخ رشيد رضا في طرابلس الشام هاجر إلى مصر وأنشأ مجلة المنار، وربما يظن الناس أنه مصري لتوطنه في مصر.

كان الشيخ عبد الحميد بن باديس من أسرة بربرية(1) عريقة، وقد التفّت الجزائر كلها حول الشيخ ورأس جمعية العلماء، وكان من أشد المنادين للعربية والعروبة والإسلام، وإن القراءة التاريخية لمجتمع المغرب العربي تكشف عن الغياب شبه الكامل لأي تناقضات عرقية أو لغوية، وثنائية (عرب – بربر) كانت دائماً مبنية على الاتصال وليس على الانفصال، ولم يشعر المجتمع المغربي أن هناك شيئاً اسمه أقلية وأكثرية.

قاد ثورة الريف في المغرب العربي الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي وهزم جيوش أسبانيا وفرنسا، وكانت كل قلوب المسلمين معه؛ تحترمه وتجله وهو بربري صنهاجي، وفي العراق وسورية أكراد مسلمون ولم يشعر العربي المسلم اتجاههم بأي شعور عنصري في أي وقت من الأوقات، بل لم يخطر على باله هذا الشعور؛ لأن الإسلام والتجانس الحضاري كان يظل الجميع، وكثير من رؤساء الوزارات والوزراء وكبار الضباط في الجيش كانوا أكراداً، ولم يقل أحد: كيف يحصل هذا؟ فلماذا تظهر هذه النزغات الآن، هذه النزغات المدمرة للأمة والمدمرة لأصحابها الذين ينادون بها، ينادون بالانفصال على أساس عرقي أو لغوي، ينادون بقوميات ضيقة متعصبة لا تفيدهم في دنيا ولا آخرة .

إذا كان هؤلاء وأمثالهم مسلمون، فالإسلام هو الجامعة الكبرى بيننا، واللغة العربية هي لغة الدين والقرآن والعلم والثقافة، ويبقى بعد ذلك ما يسمى بالخصوصية من لهجات ولغات محلية يتفاهم بها الناس، فليس هناك عاقل يعترض على هذا، والدليل التاريخي شاهد على ذلك.

الإنسان من طفولته يحب بيته وأهل بيته، وهذا هو وطنه الصغير أو الأول، فإذا تقدم شيئاً في السن اتسع أفقه واتسعت بعد ذلك دائرة وطنه، وعرف الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره، ووجد فيهم صورة أخلاقه ومنازعه، وهذا هو وطنه الثاني، ولكنه أيضاً سيجد سعادته في أمته ووطنه الكبير (الوطن الإسلامي)، ولا تعارض بين هذه الأوطان إذا كانت كلها ذات وجهة واحدة نحو الجامعة الكبرى وهي الإسلام، فقد جمعت الحضارة الإسلامية بين المسلم العربي والمسلم الكردي أو البربري… “ولكن الغرب خدرنا بالوطنيات الضيقة، فأصبح كل فريق قانعاً بجحر الضب، ويناضل عنه بمثل سلاح الضب، وهيهات إذا مزقت الأطراف أن يحفظ القلب، والعقيدة الجامعة لا تنافي التمسك بالجنسيات من غير تعصب، وذلك هو التحقيق لسنة الله الذي جعل الناس شعوباً وقبائل”(2).

إن بعض الزعماء الذين يعدون أنفسهم أقليات، ونحن لا نعدهم كذلك، ولا ننظر لهم هذه النظرة، بل هم الأكثرية؛ لأنهم مسلمون، إن بعض هؤلاء الزعماء لهم مآرب في تأجيج نار هذه العنصرية يؤزهم في ذلك الغرب الاستعماري الذي تقوده في هذه الأيام أمريكا، إنهم يعزفون على نغمة عاطفية مشحونة بالقال والقيل جاهلة بعواقب الأمور، هذه الشعوب الإسلامية التي يراد لها العيش ضمن الخصوصية العرقية، يجب أن تعرف من أين يأتيها الخير، ومن أين يأتيها الشر، يجب أن تعرف مصلحتها ومصلحة دينها، ويجب أن تعرف أنه ليس لنا خيار، فإن التآلف والوحدة من صحيح عقيدتنا وحضارتنا، ومن صميم مصلحتنا، فالغرب يتوحد بطوائفه الدينية المختلفة، وبأعراقه التي هي أشد اختلافاً، مثل: الألماني والفرنسي، والبريطاني والبلغاري أو اليوناني، ولكن هذا الغرب يسعى إلى تمزيق الوطن الإسلامي، ويثير النزاعات العرقية واللغوية، ويستجيب له الأغبياء والعملاء.

إننا _والحمد لله_ لا نتكلم من منطلق قومي أو من نظرة ضيقة لأي شعب من شعوب العالم الإسلامي، ولكن القضايا الكبرى التي تهم الأمة لا يصلح لها العواطف أو التدسس للعواطف على حساب الحل الصحيح، لا يصلح لها إلا المصارحة، وقول الحق ولو كان مراً،
الإسلام لا يضاد الأشياء الطبيعية، مثل: الانتساب إلى قبيلة أو شعب، ولكنه يحارب العصبية والتكتل حولها، ومشكلة الشعوب الإسلامية مشكلة متشابهة، بل واحدة، سواء كانوا عرباً أو غير عرب، إنها التخلف الضارب بجرانه في أرضنا في سنين متطاولة،
والحل لا يأتي من ردود الأفعال المتشنجة، ولكن بالنظر إلى ما أدبنا به هذا الدين، وما خطه لنا من مصالح وشرّع من شرائع هي لمصلحة المسلم في دنياه وآخرته.
____________
(1) وإن كان الشيخ _رحمه الله_ يفضل تعبير: الأمازيغية.
(2) الشيخ البشير الإبراهيمي: (الآثار الكاملة 5/101).

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s