ما بعد الثورات العربية (2)

نجحت ثورات عربية في اقتلاع الحكم الفردي المستبد، وإن كان نجاحا نسبيا ويصادف عراقيل كثيرة عند بعضها، وتصدر الاسلاميون النسب الأكبر في الفوز بالانتخابات وهذا يدعو للتأكيد على أن نجاح ثورة ما لا يعني نهاية الأمروكأن ذلك كان الغاية، والأصح أنها هي البداية، فربان السفينة لا يكفيه أن تقلع سفينته بل يجب عليه أن يراقب سيرها باستمرار من أجل تعديل الإتجاه من حين لاخر، ولإن الوعاء السياسي يستوعب نشاطات كثيرة مفيدة فإن نجاح الثورة يعني البناء الجديد بجميع جوانبه الفكرية الثقافية والسياسية والإقتصادية.

إن البناءات السابقة كانت في خدمة الدكتاتورية ،وللإستمتاع بخيرات البلاد وإنفاقها على شهوات الطغاة ومسراتهم. إن بقايا العهد البائد لن يكونوا (كومة) من الرجال سوف يمحوها ويفتتها مرور الزمن، ولكنهم سيحلمون بالعودة من النافذة وبطرق شتّى مثل إنشاء تكتلات سياسية تدعي الديمقراطية وتستفيد من الحرية المتاحة.

إن من عقابيل بعض الثورات أنها تحتضن أنصارها وأعداءها على السواء، وترفع شعارات موحدة ولكنها لا تستطيع أن تفرق بعد نجاحها بين من كان معها ومن كان عليها، فتأتي النتيجة طبعة هجينة من السياسة والثقافة. ومن عقابيل الثورات التي قد لا يُتنبه لها ان الثائرين الناجحين يتخذون الطرق نفسها التي درجوا على إدانتها في مواجهة الخصوم عندما كانوا في المعارضة.

ومن رحم هذه الثورات سيكون هناك ساسة يحكمون البلاد ، هم مطالبون بأن يقوموا بالواجبات ، وأن يعيشوا لأهداف كبرى وأهداف نبيلة ، وهم مدعوون دينيا وأخلاقيا لخدمة الأمة ، وهذا شيء طبيعي وهذا ماتعارفت عليه الأمم في بلدان أخرى ، وهو السياسي الذي ينشده الشعب ، السياسي الذي يخطط للأجيال القادمة، فالوطن ليس أرض الآباء وحسب بل هو أرض الأبناء أيضا ،الثورة لاتريد السياسي الذي يعيش من السياسة أي يستفيد منها لأهوائه الشخصية سواء كانت مالا أو جاها أو حبا للرئاسة أو انتقاما من خصومه. وإنما تريد السياسي الذي يعي مسؤوليته ولا يستسلم للضغوط التي يمكن أن تمارس عليه، ولا يورط نفسه مع قوى شيطانية تخادعه وتبعده عن هدفه، لا أعتقد أن هذا مطلبا صعبا أو من قبيل طلب المعجزات

ما المانع أن نرى السياسي الذي يمتهن السياسة كدعوة، أي أنه شغوف بها لخدمة المبادئ والقضايا الكبرى التي يؤمن بها، ولن ينجح أي إصلاح سياسي – مجتمعي إلا إذا انبثق من أعماق الإيمان بتحمل المسؤولية، وإذا كان العمل السياسي فيه جهد وتعب ومعاناة ويحتاج إلى بعد نظر ولكن هذا لا بد منه فإن خطأ الجاهل بالطب قد يودي بشخص واحد وأما الخطأ في السياسة فإنه قد يودي بأمة بأكملها، وذلك حين تنفصل السياسة عن الأخلاق والدين ويدير شؤونها الدجالون والمحتالون.

ليس مهما إحراز السلطة بأي وسيلة ولو كانت وسيلة شريرة والنظام العادل ينجح ولو في المستقبل ، ولذلك تحدث مؤرخو الحضارات عن سقوط الدول والأمم بسبب تدهور الأخلاق.

نريد السياسي الذي يملك الشجاعة لأن يقرر ما يعتقده، وهذه صفة قل أن نجدها في السياسيين المعاصرين الذين يتخذون السياسة حرفة لمصالحهم حيث يتكلمون دائما بكلمات غامضة تصلح لكل زمان ومكان، وذلك لخوفهم أن يقال عنهم أن لهم فكرا معينا، هناك أوهام ذات ضجيج قد ترعب الجبناء ولكنها تذهب عندما تأتي الجسارة والإقدام وقول كلمة الحق. إن مايقال عن احتمال حرب أهلية في سورية هو من قبيل الأوهام ، وما يقال عن مشكلة الأقليات هو من قبيل الأوهام ، والجرأة في قول كلمة : لا تنهي هذه المغالطات

تريد الثورة السياسي الذي لا يكون أسيرا للشعارات التي ترفع للتوافق والمصالحة على حساب المبادئ والقيم الأساسية. تريد السياسي الذي ينتصر على أكبر عدو له ألا وهو الغرور والزهو بأعماله وهذا داء متفشٍ، وينتصر على السلبية في التصرفات حين لا  يدافع أن أي قضية هامة وهو يظن أنه ينأى بنفسه عن المشاكل.

ستفشل سياسة بلا تربية تغرس في المشتغل بها تفضيل مصلحة الدين ومصلحة الأمة على مصالحه الشخصية، وتغرس فيه الفضائل الأخلاقية التي تجعله سهلا ميسرا لأمور الناس.

ستفشل سياسة تؤدي بصاحبها إلى البعد عن العلم النافع ولو ساعة من ليل أو نهار بحجة انشغاله بالمباحثات والتنازلات.

ستفشل سياسة تريد قطف الثمرة قبل أوانها والقاعدة الفقهية تقول: (من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه)

ستفشل سياسة تخلي الساحة للفكر الصلب، فكر إجماع الأمة لصالح الفكر الرخو، فكر تضخيم مشكلة الأقليات والقوميات الصغيرة والطوائف الصغيرة ويصبح المجتمع مهددا بالتفتت والإنقسام ،ويكون ذلك لصالح الأعداء والشامتين .

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s